تولدت حيوية الأمام القوية من جبله أبيه الحرة في (محلة نصر)، وتكونت نفسيته الدينية من صوفية خاله النقية في (كنيسة أورين)، وتفتحت عقليته العلمية في شمس جمال الدين المشرقة بالقاهرة؛ فكان سر الوراثة يجريه في الاعتقاد على الإخلاص، وفي العزم على المضاء، وفي القول على الصراحة، وفي العمل على الجرأة، وفي الحياة على التمرد؛ فالقلق المقدس الذي يشبه في الحكماء، والإرهاص في الأنبياء، كان لا يفتأ منذ الحداثة يساوره في كل هم يحاوله، وعمل يزاوله، وموضع يستقر فيه؛ وذلك القلق مبعث في المصلح صفاء النفس ولطف الحس وحدة الفطنة، فهو وحدة يدرك النقص فيروم الكمال، ويلحظ الخطأ فيطلب الصواب، ويسام الركود فيبتغي التحول؛ ولذلك كان الأمام لا يكره طبعه على حال، ولا يلبس سمعه على رأي، ولا يملك لسانه عن نقد، ولا يكف عزمه عن تغيير، ولا يخزل جهده عن إصلاح
دخل المعهد الأحمدي فبرم بالتعلم لفساد الطريقة وسوء الكتب، فكان وَكْدُه طول عمره أن ينعش الدين من هذا الخمود، ويخرج الأزهر من هذه الفوضى، وينقذ الطلاب من هذا العنت؛ وظهرت مقالاته في (الأهرام) وهو لا يزال في صدر الطلب تحمل دعوة هذا العقل المتجدد المتمرد إلى العلوم العقلية، والمعارف العصرية، والأدب المنتج؛ ثم تولى رآسة المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية فثار على الأساليب الكتابية في الدواوين، والتقاليد الإدارية في الحكم، والبدع الفاشية في الدين، والعادات المنكرة في المجتمع؛ وكانت مقالاته في (الوقائع المصرية) دستوراً للغة، ونظاماً للكتابة، ومنهاجاً للفضيلة، قام على نفاذها سلطان من شجاعته وقوة من نفوذه
ثم شايع العرابيين في الغضبة المصرية الأولى مشايعة البصير الحازم، فأعقبته النفي إلى سورية؛ وهناك دله ذلك الشعور النبوي فيه إلى ما جره سوء سياسة السلطان، من انفراج الحال بين الأديان، وجفاف الثرى بين الأخوان، فوضع دستوراً لإصلاح التعليم الديني قدمه إلى شيخ الإسلام، ومشروعاً لإصلاح القطر السوري قدمه إلى والي بيروت، ولو أخذت