للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بهما الحكومة العثمانية لكان شأنها غير ذلك الشأن، وعاقبتها غير هذه العاقبة

ثم أتسع أفق تفكيره، وأنفسخ مدى نظره، فراعه حال المسلمين من قناعتهم بالدون، واستنامتهم إلى الهُون، وقعودهم عن مسايرة التمدن، فوافي الأفغاني إلى باريس، ودعا في (العروة الوثقى) أشتات الأمة إلى الوحدة، وأموات الجهالة إلى البعث وأسرى العبودية إلى التحرير

ثم ولوه يعد العفو عنه القضاء، فلاءم بين الأحكام المدنية والدينية، وساوى في النظام بين المحاكم الأهلية والشرعية، وأرتحل لهذه من الإصلاح ما حقق من وجودها النفع، وجدد في قضاتها الثقة، وضمن لقضائها التنفيذ

ثم عاد فحصر إصلاحه الداخلي، الديني والمدني، في إصلاح الأزهر، لأنه منشأ الدعاة والهداة والقضاء والمعلمين في مصر وغير مصر، فإذا قلبه على الوضع الذي يريد فقد وضع المكواة على أصل العلة، وأختصر الطريق إلى بلوغ الغاية؛ ولكن أبا لهب وأشياعه في الجامع وفي القصر أرادوا وا أسفاه أن يطفئوا بأفواههم نور الله، فأطفأوا بكيدهم سراج حياته!!

ذلك سر الوراثة الفلسجية عن أبيه القروي الفقير الباسل، أما سر الوراثة الروحية عن خاله التقي العارف، فرجوعه إلى مشاريع الدين الصافية، وعقائد القرآن الأولى. قال ذات يوم لخاله: ما طريقتكم؟ قال: الإسلام، قال: وما وردْكم؟ قال القرآن. فلم يتبع منذ يومئذ غير سبيل المؤمنين ومنهاج الأئمة: أيقظ همه للإسلام فقرت عقائده من الأفهام، وقطع عنه ألسنة المبشرين والمستعمرين بالأدلة النواهض والحجج الملزمة؛ وجعل عزمه للقرآن ففاز منه برياض مونقه، وأعلام بينه: فبراهين قضاياه من قواعده، وبينات دعاواه من شواهده، ومضامين عبقرياته من هدية، وأفانين بلاغاته من وحيه، وعناوين مقالاته من آيه؛ فكأنه رسول الرسول ظهر في عصر العلم الشاك والمدنية الملحدة ليكشف عما غيب الله من نور الكتاب وسره!

أما سر الوراثة العقلية عن أستاذه الحكيم الثائر، فذلك النفوذ البعيد في علوم الفلسفة، والبصر الشديد بضروب المعرفة، والإلمام المحيط بثقافة العصر، والعلم الواسع بقواعد العمران وتاريخ الأديان وطباع الشعوب وأخبار الأمم! وسر النتائج في هذه الوراثات

<<  <  ج:
ص:  >  >>