من العجيب أن الذين أجدوا على العربية وخدموها أجل الخدمات، ليسوا من أولئك الذين ربطوا أنفسهم بدراستها، وأفنوا أعمارهم بحثاً في أصولها وفروعها، ونحوها وصرفها، ولكنهم جماعة ابتدءوا حياتهم بدراسة لعلها آخر ما يتصل بالثقافة اللغوية، ثم دفعتهم الرغبة النفسية الخالصة فخاضوا لجج البحث اللغوي، وأمعنوا في دراسة فقه العربية وأصولها ومفرداتها فخدموا لغتهم وأمتهم خدمة أقل ما يقال فيها أن مجمع اللغة بجاهه وماله لم يبلغها في شيء. ولعل في طليعة أولئك الباحثين الهواة (كما يقولون) الدكتور أحمد عيسى بك، فهو طبيب نابه في مهنته، ثم هو باحث معروف في اللغة، وقد أخرج في خدمتها مؤلفات قيمة، آخرها ذلك الكتاب:(المحكم في أصول الكلمات العامية)
ووضع الدكتور الباحث كتابه هذا ليثبت به كما يقول: أن اللغة العامية التي نتكلمها الآن في مصر ليست بعيدة كل البعد عن العربية الفصحى، وهو تبتعد عن الفصحى في شيئين: الإعراب وتركيب الحروف، على أن أكثر الكلمات العامية التي ينفر منها الذوق الآن ويستنكرها الحس إنما كانت من أفصح الألفاظ العربية، وإن كثيراً منها قد استعملت فيه المجازات اللطيفة والاستعارات المستملحة التي تعد من أرقى أساليب الفصاحة في الكتابة والكلام.
ولا شك أن المؤلف قد استطاع أن يحقق رأيه بما جمعه وشرحه من المفردات العامية وردها إلى أصولها وبيان ما اعتورها من التحريف، وقد رتب سردها على حسب الحروف الهجائية، بذكر اللفظ العامي وبجانبه تفسيره عند العوام، ثم يأتي بالأصل الفصيح مبيناً ما فيه من الحقيقة والمجاز.
والمؤلف طبعاً لم يجمع كل الكلمات المستعملة في لغة العامة ولكنه قد جمع منها ما استطاع أن يرده إلى أصوله في اللهجات العربية، ومنها ما رده إلى أصله في الفارسية واللاتينية والتركية والسريانية وغيرها من اللغات التي دخلت على لهجات المصريين. وقد قدم لذلك كله ببحث وافٍ في أسباب التحريف في اللغة وتعدد اللهجات والفصيح منها والمرذول،