كان شاعر الألمان (جوته) يعنى منذ صباه بتاريخ الشرق وشعره. فدرس العبرانية وأدمن مطالعة التوراة. وكان يهتز لها لما يجده بها من أريحية الشعر، وبخاصة (قصة راعوث) و (نشيد الأناشيد). وهو يعتبر النشيد نسيج وحده في الرقة وحرارة الحب، وكان يستروح منه نسمة دافئة تهب من بقاع كنعان، وتتراءى له فيه حياة الحقول الوادعة ومزارع الكروم ومنبسط الرياض ومنابت الطيوب العاطرة. ويأنس من بعيد زحمة المدن ببني إسرائيل، وفيما وراء ذلك جميعه يتخيل ديوان سليمان وأبهة ملكه.
وينتقل جوته من العهد القديم العبري. إلى عصر الجاهلية العربي. حيث يقع على الكنوز المذخورة في المعلقات. تلك القصائد المطولات التي أحرزت الفوز بميدان النزال الأدبي في أسواق الشعر عند العرب. وهو يتمثل منها أهل البداوة الرعاة المقاتلين، لا يبرحون في غارات إثر غارات، يؤججها ما بين قبائلهم من تراث وخصومات. ويقول شاعر الألمان إن المعلقات تحدثه بأقوى بيان عن العصبية التي تربط أبناء القبيلة الواحدة، وعما الطبع عليه العرب من روح الإقدام والبسالة، والتحرز من العار والاستمساك بدرك الثار، وطلاب المجد، والتماس الفخار. وكيف أنهم كانوا يقدمون النسيب بين يدي هذه الفضائل الشديدة فيلطف عرامها وعنفها، بما يبثه من الأسى والحنين ولوعة الهوى وحسن الوفاء. ويزيد هذه القصائد العصماء قيمة عنده أن لكل منها سمة غالبة يلمسها القارئ ولا ينكرها
على أن الذي شغل جوته أكبر الشغل هو شخصية سيدنا محمد. وغير خاف أن العالم المسيحي كان من أيام الحروب الصليبية سيئ الرأي بطبيعة الحال في صاحب الشريعة الإسلامية. وكانت الكنيسة تتجاهل وجود القرآن وتحرم ترجمته، حتى جاء القرن السادس عشر والسابع عشر، فعمد بعض العلماء إلى نشر تراجم له مشفوعة دائما بدحض ما جاء به وتفنيده. ولعل ذلك منهم من قبيل التقية ودفع الشبهة، وحرصا على تزكية عملهم والتكفير عنه عند أهل ملتهم. ثم بزغ على الأثر عصر الشك، أو ما يسمونه عصر النور. وكان دعاته يحملون على الأديان كافة حملتهم الشعواء، ولا يريدون أن يروا في أصحابها إلا دجاجلة مغررين يزعمون للناس أنهم ملهمون. إلا أن الأحوال تعدلت، وانبرى بعض