ذكرنا في كلمة سالفة أن الترف مفسد للأمم وأن التقشف مقوٍ لها، وأن الترف نتيجة طبيعية للغنى، وأن التقشف نتيجة طبيعية للفقر، ونريد الآن أن نعلم لماذا كان الترف مضعفاً للأمة كاسراً لحدها، ولماذا كان التقشف مقوياً لها. لعل ذلك يرجع إلى ما يأتي:
١ - إن المترفين لا يباشرون حاجاتهم بأنفسهم بل يتولاها لهم غيرهم، والعضو الذي لا يعمل يفقد قوته، وربما مات. لذلك تضعف أعضاؤهم وتفتر قوتهم؛ وقد قال بعض العرب: ما وددت أني مكفي المؤونة. قيل له: ولم ذاك؟ قال: أخاف عادة العجز. أما الفقراء فهم لحاجتهم يتولون الأعمال الجالبة للرزق فتقوى بذلك أجسامهم وعقولهم، فحيث ترى قوماً يعملون رأيت السواعد القوية، والصحة والعافية والعقول الخصبة والأفكار المنتجة. وحيث رأيت قوماً مكفي المؤونة رأيت الأجسام الضعيفة والفتور العقلي.
٢ - إن المترفين ينغمسون في الشهوات، ويكرهون المشقة، ويخافون الخروج من عيشة الدعة؛ فهم دائماً مخلدون إلى الأرض، لا يرفعون رأساً، ولا يسمون إلى مكرمة؛ فإذا رأوا طريقين: أحدهما شاق وعلى رأسه العزة، والثاني سهل وعلى رأسه الذلة، اختاروا أسهل الطريقين ونفوسهم دائماً تكذبهم وتختار الأسهل، وتزعم أنها اختارت ما فيه الخير؛ فإذا توقفت حياتهم وعزتهم على حرب يخوضونها عللوا نفوسهم بالأماني وسوفوا، فإذا اضطروا إلى خوضها ورأوا طريقاً للنجاة منها ولو بوعود كاذبة يبذلها العدو، صدقوا هذه الوعود وخدعوا أنفسهم. أما غير المترفين فهم لا يبالون الشدائد لأنهم أبناؤها، فإذا رأوا طريقاً للمعالي سلكوه ولو كان فيه الموت جاثماً، وإذا رأوا طريقاً للمخازي نبذوه ولو غرست فيه الورود والرياحين.
من أجل ذلك ترى الذين يخافون عاقبة الترف يكلفون أنفسهم أعمالاً جسدية شاقة لتقوي أبدانهم.
روي أن عمر بن الخطاب قدم إليه فرسه وعليه الركاب فنحاه عن فرسه وكان يقفز من الأرض، فإذا هو على ظهر فرسه، فكأنما خلق عليه.