كان من حظ المسيحية أن يُبعد مكانها في التاريخ، لتكثر فرص الشعر والخيال حول ميلاد المسيح، عليه السلام، حتى جاز لفريق من المؤرخين أن يرتابوا في شخصية المسيح، كما ارتابو في شخصية سقراط (؟!)
والارتياب في وجود تلك الشخصية النبوية لا يضر ذلك النبي في كثير أو قليل، ولكنه يؤدي إلى غاية لم يفطن لها أولئك المرتابون، وتلك الغاية هي التحقق من ظمأ الإنسانية إلى نور يُطلّ من علياء السماء. نور جميل جذاب يبدد ما في الضمائر من ظلمات الجحود
ولنفرض جدلًا أن الرأي ما رأى أولئك المؤرخون، وأن الإنسانية هي التي ابتدعت ذلك الميلاد، فكيف اختارت هذا الوقت من السنة وهو طليعة الشتاء؟ إن الذي اشتغل بالفلاحة يدرك ان الأرض في هذا الوقت تعتلج بقوة وعنف، وتتهيأ لثمرات العام المقبل بلذه وشوق، وهي في (الظاهر) غافية، ولكنها فيالباطن جذوة من اليقظة العارمة والإحساس الفوار في هذا الوقت تنظر الأرض إلى البذور وهي تقول: هل من مزيد؟ في هذا الوقت تستيقظ الأشجار التي جردها الخريف من الأوراق، ولو شرحت تلك الأشجار لظهرت عناصر (البزور) وهي الأثداء التي يرضع من رحيقها الورق الجديد في هذا الوقت تلقى بذرة فتنجح وتلقى بذرة فتخيب، لأن الأرض في هذا الوقت تحيا حياة عصبية، والحياة العصبية لاتعرف التدليل، فهي لاتقبل من البذور إلا ما يقوي على دفع عوادي البرد والجليد، ولن يكون الأمر كذلك بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ الميلاد، فحينئذ ترق الأرض وتلطف فتحضن البذور الضعيفة بترفق واستبقاء فهل فهمنا الآن كيف اختارت الإنسانية هذا الوقت لتاريخ الميلاد، على فرض أنه تاريخ مصنوع، وعلى فرض أن البحث من حيث هو بحث يسمح بالنظر في الفروض، بدون اعتداء على مقام المسيح، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات؟! أما بعد فقد كان لي مع هذا التاريخ تواريخ كنت أحمل باقات الأزهار وطرائف الهدايا إلى مآلف القلوب والأرواح يوم كان لي قلب وروح، قبل أن تدور الدنيا من حولي بإفكها المرجف وبغيها الأثيم، وقبل أن أعرف أن شجرة الحب كشجرة الميلاد فيها أوراق صناعية لا تحس ما يحيط بها من أضواء وألوان، ولا تقدر على نقل