قد يصل المرء إلى المعرفة الجوهرية عرضاً، وهي التي نسميها هنا معرفة الطريق
وقد احتاجت معرفة الطريق في عصرنا هذا إلى شئ من الإنصاف بعد أن جار عليها الناقدون كل الجور، وزعموا أن النظرة العرضية لا تؤدي إلى معرفة يعتد بها على الإطلاق
وفي اعتقادنا أن تاريخ المذاهب الفكرية كلها إنما هو تاريخ جور واعتدال، أو تاريخ إجحاف وإنصاف، أو تاريخ تجاوز للحد ورجوع إليه، وقد يكون الرجوع إلى ما دون الحد بكثير أو قليل، فيحتاج الفكر إلى رجعة أخرى ليستقر على الحد الصحيح
أفرط الناس في الإيمان بالمنطق، ثم أفرطوا في الإيمان بالسماع، ثم أفرطوا في الإيمان بالعلوم التجريبية، ثم جمعوا بين المنطق والسماع والعلوم التجريبية في تقديرات علم النفس الحديث، ثم لعلهم يعودون كرة أخرى إلى حدود المنطق السليم، ولكن لا وراء الحدود في هذه المرة ولا أمام الحدود، بل على سواء الحد الصحيح
ومن الأراجيح الفكرية التي تجاوزت الحد جيئة وذهوباً أرجوحة الكلام في مشاهدات السائحين، أو تعليقات الناظرين إلى الأمم من عرض الطريق؛ فقد أنكرناها وغلونا في إنكارها كأن النظرات العارضة لا تميز أمة من أمة ولا مدينة من مدينة، وكأنها لا تطلب لذاتها في بعض الأحيان للدلالة على حكم المفاجأة الأولى، وكثيراً ما تكون المفاجأة الأولى هي المميز الواضح بين الناظرين كما تكون هي المميز الواضح بين المنظورات
كان (فيليب جويدالا) الأديب الأسباني أصلا والإنجليزي نشأة يعبر بالقاهرة، فسألته: أتنوي أن تكتب شيئاً عن رحلتك؟ فقال ضاحكا: لا أظن أن أيامي القصيرة في هذه الرحلة تكفي لتأليف الكتب في موضوعها. ثم قال: لعلي أنا السائح الوحيد الذي قضى في روسيا نحو أسبوع، ولم يخرج منها بموضوع كتاب.
ومراد الأديب بما قال أن يسخر من عجلة المؤلفين في الحكم على الشعوب التي يعبرون بلادها ولا يطيلون المقام بين أهلها، وهو على حق في هذه السخرية إذا كان الموضوع الذي يتصدى له أولئك المؤلفون العابرون مما يحتاج إلى إطالة الدرس وكثرة المراجع