أكثر الموظفين قد شربوا هذه (الكأس الأولى) فصاروا من
بعدها سكارى ما يصحون، ولا ينتصحون. . وهذه قصة
(الكأس الأولى) فانظروا من هو المسئول عنها: آالذي أخذ
الرشوة، أم الذي أعطاها، أم الذي أمر بها، أم الحكومة التي
قللت المرتب فدفعت إليها؟
كانت ليلة مخيفة من ليالي شتاء سنة ١٩٤١، وكانت تعول رياحها كما تصرخ الشياطين، وترقص في الجو كأنها مردة الجحيم قد أفلتت من قيودها، وأقبلت تلذع ووجوه الناس بمثل حد المواسي من شدة بردها، ولثلج يتطاير كأنه القطن المندوف، ويتراكم على الأبواب والنوافذ، حتى لقد بلغ سمكه على الأعتاب وفي أصول الجدران قريباً من ذراع، والناي قد فرغوا إلى بيوتهم فاعتصموا بها، وخلت الشوارع وأقفرت السبل فلا ترى فبها سالكاً. . .
في تلك الليلة، كانت نوبة عبد المؤمن أفندي في مخفر (الكسوة): يقضي ليلته وحيداً يرقب الطريق ليحرسه من المهربين والفارين من المكس (الجمرك)، ومن مخالفي أنظمة التموين، منفرداً بعيداً عن رفاقه وعن مساكن القرية، وكان قد أخذ معه على عادته طعامه وسلاحه، ولبس كل ما يملك من دثر الصوف، واشتمل بمعطفه، ولف عليه شملته، وأدخل كفيه في قفازيه، وأغلق عليه بابه، وأوقد ناره، وأضطجع على سريره مطمئناً إلى أن أحداً لن يجتاز الليلة هذا الطريق إلا إذا كان مجنوناً والمجنون لا يؤاخذ. . . وحاول أن يهجع ساعة فيدفأ فلم يستطع لا خوفاً من أن يطرقه المفتش، فما في الدولة مفتش يخرج الليلة من بيته، بل من شدة البرد، فلقد كان النفس يتجمد على زجاج الشباك. . . ثم استدارت الريح فجعلت ترد الدخان على المدفأة حتى امتلأت به الغرفة ولم يجد لدفعه حيلة، فأضطر لإطفاء النار ولبث يتقلب في البرد حتى أحس بان أصابعه قد تجمد فيها الدم، فامتلأت نفسه بالنقمة على