هذه الوظيفة وعلى حظه من الدنيا، وعلى الرئيس الذي ألقاه في هذه القفرة المنقطعة بعيداً عن زوجته وبنته وولديه بمرقب لا يتجاوز مائة ليرة سورية (نحو أحد عشر جنيهاً) وهو قد أشرف على الأربعين وقطع سن الأمل والنشاط، ونظر فإذا الذين هم دونه سناً وعلماً قد بلغوا بالوساطات والشفاعات المرتبة الخامسة أو الرابعة. . . وفكر في هذا المرتب ماذا يشتري به، وكيف يعيش. . . وأجرة داره الصغيرة المخربة التي أستأجرها من قبل الحرب ثلاثون ليرة في الشهر، وثمن رغيف الخبز من السوق عشرون قرشاً، وكيلو اللحم بخمس ليرات، وكيلو الرز المصري بأربع ليرات والسكر مثله، وكيلو الشاي بعشرين ليرة، والحذاء المتوسط بثلاثين، وثمن القميص مهما استرخصه عشرون، وأجرة الطبيب العادي المبتدئ خمس ليرات، وحبة الكينا الواحدة بأربعين قرشاً، ولوح الزجاج إن انكسر زجاج الشباك سبع ليرات. . .
وطفق يدير حسابه على الوجوه كلها، ويضرب الأخماس بالأسداس، ويتذكر كل ما تعلمه في المدرسة وفي الحياة من علم الاقتصاد وفن تدبير المنزل، وما سمعه من أشياخ قومه وعجائز أسرته، فلم يسعفهشيء من ذلك كله في الاكتفاء بهذا المرتب، وقصر مصروفه عليه، وتذكر ولده الصغير وأن أثمان كتبه بلغت أربعين ليرة. . . أما كتب ولده الكبير الطالب في الثانوية فإن مجرد التفكير في أثمانها يفقده ما بقى من عقله، وإذا هو أكمل الثانوية غداً، ودخل كلية الحقوق مثلاً. . . رأى بلاء أنكد وخطباً أشد، ذلك أن الأساتذة قد استحدثوا في هذه الأيام شيئاً سبقوا فيه التجار والمحتكرين، وأتوا بما لم يأته أحد من الأولين، فطبعوا كتبهم في مطبعة الجامعة، ثم حددوا لها أثماناً تجعل قرش أحدهم عشرة، ثم ألزموا الطلاب بشرائها إلزاماً، فلا يدخل الامتحان من لا يدفع هذه الأثمان، وحجتهم في ذلك أن الطلاب لا يشترونها إذا هم لم يجبروهم، مع أن الطلاب وغير الطلاب يشترون كتب العلماء والأدباء من غير إكراه ولا إلزام، لأنها نافعة لهم ولأن فيها متعة، فلماذا لا يجعل هؤلاء الأساتذة كتبهم ممتعة ويجعلون فيها نفعاً. . .؟ وماذا يصنع عبد المؤمن أفندي! أيدع ابنه محروماً من التعليم، ويضيع هذا الذكاء النادر الذي راعت بوادره المدرسين، ويسلمه إلى وظيفة حقيرة مثل وظيفته، لا لشيء، بل لأن المدرسين والأساتذة المحترمين ذاقوا لذة الربح، فنسوا فضيلة القناعة، ولأن وزارة المعارف وإدارة الجامعة، لا تحددان