للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[عهد]

ختام

للأستاذ محمد محمود جلال بك

وثمة صلة تخفى على النظرة العابرة. تلك صلة القرية وقرباها. (برطباط) بلد الشاعر التي هام بها وكانت في مجموعها مصدر أنسه، فصديقاه منها، ومعالمها أحب المعالم إليه، وعشراؤه الذين يعمرون ندوته من أهلها. إذا غاب عنها ونزل القاهرة دعاها هاتفاً:

يا (برطباط) سلام الله أهديك ... أنت الحبيبة قلبي ليس سلوك

يا قرة العين يا دار الخليل ويا ... مهد الأحبة ما حب كحبيك

وإذا طال مقامه عما قدر، وقد لا ينزل القاهرة إلا لعلاج أو لضرورة عمل، عزفت عينه عن مباهجها، ورأى في (برطباط) شخص حبيب يرفع إليه اعتذاره:

حالت صروف الليالي دون مجتمعي ... يا ليتها ما مضت عنا لياليك

مرت سراعاً فسارت إذ مضت وقضت ... على حشاشة أنسي بعد أهليك

ولم أظفر بنظير - فيما عرفت وقرأت - لهذا العمق في حب المكان - ولعل ما أشرت إليه من إرهاف حسه، وحب الخلوة أثر في ذلك:

ما مصر يوماً وإن جلت محاسنها ... أبهى وأحسن عندي من مرائيك

وشاعرنا في هذا الوضع يشارك المرحوم رفاعة بك الطهطاوي إذ يقول في مقدمته (الوطنية المصرية) يشير إلى طهطا (ولأرضك حرمة وطنها، كما لأمك حق لبنها، ومن طبع الأحرار الحنين إلى الأوطان، وإن ألبستني المحروسة (القاهرة) نعما)

ولا شك أن الوفاء أظهر وأوضح حين يتصل بالقديم من المنازل والأول من الذكريات، فلكل واحدة من أولئك فضل الانبثاق العاطفي، وأول الإشراق للتقدير الشخصي.

يقولون إن الرسول الكريم - وهو مثل الكمال الإنساني عليه صلاة الله وسلامه - نظر إلى معالم البلد الحرام أول هجرته وقبل أن يستدير ثم قال (اللهم إنك أحب بلد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما هاجرت). وهذا أرق تبرير وأدق، وهو لم ير إلى ذلك التاريخ إلا جفوة منكرة من أهلها. ومعالم احتفظت بهول العذاب للنفر الغر من صحبه الكرام لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله. ولكنه يعرف للبلد الذي نشأ فيه حرمته وحقه، ولا ينساه حتى وهو

<<  <  ج:
ص:  >  >>