ما هي مقاييس التمدن وأين هي مظاهره؟ أهي في حركات الإنسان وطراز ملابسه ومجموعة مظاهره الخارجية، أم هي في أثاث بيته وأشكال سيّاراته ووسائل راحته وعدد خدمه، أم هي في الإنتاجين العقلي والمادي للبشرية؟ يختلف الجواب طبعاً على هذه الأسئلة باختلاف عقلية المرء ودرجة ثقافته. فجواب العلماء يختلف ولا شك عن جواب السواد الأعظم من الدهماء. وجواب الشرقي يختلف كثيراً عن جواب الغربي، وكذلك جواب الفقير عن جواب الغني
أما المقاييس العلمية فتستند طبعاً على أسس فنية منتظمة، وقواعد منطقية محكمة، لا تكتفي بالمظاهر ولا تقتنع بالظواهر، لها أحكام خاصة ونتائج تستند على مقدمات وبراهين. و (وحدة التطور) في حياة البشرية بالنظر للغة العلم هي (الكفاءة) والقابلية وقوة الابتكار؛ وهي وحدة تقاس بها كفاية الأفراد كما تقاس بها كفاية الشعوب والأمم باختلاف الأجيال والعصور. فكلما أعرقت البشرية في المدنية ازدادت قوة ابتكارها وتنوعت اختراعاتها وتشعَّبتْ اكتشافاتها وتعقدت حياتها وزادتْ احتياجاتها عن مستوى حياة الإنسان السابق
ولا تقتصر هذه الكفاية على الكفاية الروحية فقط، بل تشمل الكفاية الجسمية والمادية أيضاً. ومعنى هذه الكفاية هو خلق جيل قوي جميل، مثلاً، ذي أعضاء وعضلات قوية متناسبة لا تدكه الأمراض ولا تؤثر فيه الجراثيم، فهو يستطيع أن يقاوم ويقاوم. يتمرد على الطبيعة كما كانت الطبيعة تتمرد على الإنسان السابق. له أهداف ومثل عليا كلما نال منها نصيباً طمع في أخرى؛ لا تقصر همته كما قصرت همة الشعوب المنقرضة
والتقدم في الناحية الثقافية معناه تقدم الإنسان تقدماً مطرداً في دائرته المثلية مثل مثله العليا وأهدافه الأخلاقية ومطامعه في الحياة وأساليب معيشته واحتياجاته البيتية بحيث تتعقد حياته الروحية وتصعب وتتنوع طرق تفكيره وطراز تعبيره عن أفكاره في القول والكتابة، ويبدع في الإفصاح عن شعوره وما يجيش في نفسه في الموسيقى والشعر والتمثيل والغناء. وكلما تنوعت هذه وتشعبت وتميزت دلت هذه التطورات على تقدم ونمو وسير مع النواميس الطبيعية لهذا الكون. لذلك كانت احتياجات الشعوب المنحطة في هذه الناحية ابتدائية بسيطة