من يدري مدى الحيرة التي تنتابك والدهشة التي تستولي عليك حينما يقع بصرك على إمضائي في آخر هذه الرسالة؟
فقد انقضت أعوام وأنا لم اكتب حرفا وأنت لم تخط إلي سطرا. ولا ريب انك ستجد في صوتي الذي اخترق حجاب هذا الصمت الطويل رجعا لصدى غريب من أصداء ما وراء الطبيعة. وهل أنا (والحق يقال) إلاّ رجل يخاطبك من وراء الطبيعة ويناديك؟؟
ان هذه الحرب الطاحنة والفوضى الجارفة قد بدّلتا كل شيء؛ حتى اصبح كل من خرج منهما سالما ذا أنباء وأخبار كأنما هو بأسرار القيامة عالِمْ وعلى أدوار ما قبل التاريخ واقف.
ان هذه السنين الخمس من أعمارنا مملوءة بحوادث خمسة عصور، فالأشياء التي كنا نعلمها والملامح التي كنا نعهدها قد أصبحت غريبة عنا ليس بها من عهد. وأنا اليوم لا أجد في نفسي القدرة على أن أتتذكر أيام الصبا التي كنا نقضيها مجتمعين والكتب التي كنا نقرؤها مشتركين والأعمال التي كنا نقوم بها متعاضدين والخيالات التي كنا نبني عليها سعادتنا متفائلين، وكل ما أستطيع أن أتذكره أننا لم نكن في تلك الأيام أسعد بالا ولا أحسن حالاً منا في هذه الأيام.
وأنا أريد ان أوضح لنفسي هذا بنفسي فلا أوفق، فيخيل إلى الآن إنني كنت بإنشاد الشعر مشغوفا، وانك كنت بالرسم مفتوناً، ففي السنة الأولى من عهد الانقلاب كنت أنا في عالم الآداب شاعرا معروفا بعض المعرفة، وكنت أنت في عالم الصناعة النفيسة رساما مشهورا بعض الشهرة وأننا كنا اكثر رفاقنا اهتماما للملبس واكتراثا للمسكن واحتفالاً بالمأكل: فكنا نقضي أيامنا بالذهاب إلى المآدب الفاخرة او بالسعي في ترتيب الملاهي الساهرة.