هي سنة واحدة قضاها أحمد محرم في المدرسة، أو على الأدق في مدرستين: العقادين الابتدائية، فمدرسة الجيزة بالقاهرة، بعد أن تلقى مبادئ القراءة والكتابة في مكتب قرية الدلنجات من أعمال مديرية البحيرة وحفظ القرآن الكريم في الثانية عشرة من عمره.
وبعد هذه السنة جاءه أبوه التركي المرحوم حسن أفندي عبد الله بطائفة من علماء الأزهر يدرسون له النحو والعروض وسائر علوم العربية، وعكف من ثم على التراث الأدبي العربي في مختلف عصوره دارساً وحافظاً. هذه هي دراسة الشاعر الأولى، أو هذه هي مدرسته الأولى التي هيأته للشعر يقوله. . . ومنها انتقل إلى المدرسة الأخرى، مدرسة الحياة الكبرى التي كونته حكيماً اجتماعياً إلى أن انتقل إلى العالم الباقي. . .
وللحكمة في قيثارة الشاعر وتر واحد، عن هذا الوتر تصدر الحكمة والاجتماعيات في نغمة واحدة أو في أنغام مختلفة. . . سهمان ينطلقان إلى هدف واحد، هو تعمق الحكيم وشمول نظره، وما يكون المرء اجتماعياً إلا لأنه حكيم، وما يكون حكيماً إلا لأنه اجتماعي.
وفي المدرسة الكبرى، مدرسة الحياة راح الشاعر - من جديد - يدرس ويتعلم بالكثير من راحته، وسكون نفسه واطمئنان باله، وينفذ وراء بصره إلى أعمق ما تعرض الحياة من قضايا، وما تكن زوايا البشر من خبايا. . . كانت هذه الدراسة، وهي قطعة من حياته، أو هي حياته كلها - تأملاً، وشعوراً يستحيل عند فيضانه إلى تعبير جلي قوي تتمشى الحرارة في ثناياه، وتنبض الروح بين طواياه. . .
وكان جل ما تعرض عليه الحياة، تحت شجرة إلى جانب مقهاه الأثير في دمنهور أمام المحكمة الأهلية، حسبه منها، ومن الحياة، أن تفيء عليه ظلها ساعات في الصباح، ومثلها في المساء. لم يكن يحتمل جو المقهى إلا ريثما يأخذ الصحف والبريد بنظرة خاطفة، يهتز بعدها من الضيق فيحمل كرسيه ويطلب إلى الانتقال إلى (شجرة العرش) باسماً!
وننتقل إلى ظلال (شجرة العرش) لنراجع النفس فيما سمعنا ورأينا وعلمنا، ثم لنسكت، أنا في شأني، وهو في تأمله الهادئ العميق.