عجيب أمر أولئك المسلمين! كانت صدورهم والله رحبة أرحب من صدور أهل القرن العشرين. هذا يوحنا الدمشقي أحد آباء الكنيسة اليونانية وأحد كبار القديسين يطعن في عقيدة المسلمين ويؤلف الكتب في الرد عليهم ويجادل علماءهم في صحة دعوى النبي العظيم، وهو مع ذلك موظف من كبار موظفي بلاط أمير المؤمنين، ورجل من ذوي الحل والعقد في دمشق عاصمة خليفة رسول العالمين.
عاصر يوحنا الدمشقي أو منصور بن سرجيوس المعروف (ينبوع الذهب) الخلفاء الأمويين وجالسهم وعمل لهم في دولتهم وكانت له دالة عليهم، كما كانت لوالده (سرجيوس) حرمة في نفوس العرب ومنزلة انتقلت إلى ابنه من بعده. كان سرجيوس هذا من الموظفين المشهورين في العهد البيزنطي ومستشاراً مالياً معروفاً، شهد الفتح الإسلامي لسورية وظل محافظاً على منصبه هذا حتى في الإسلام. ولعله كان موظفاً في عهد عبد الملك بن مروان.
أما ولده يوحنا فلقد كان من المقربين إلى الخليفة يزيد بن معاوية والأثيرين عنده. ولما توفي والده في منصبه المالي الكبير وظل في هذه الوظيفة حتى خلافة هشام (٧٢٤ - ٧٤٣) إذ ترك الدنيا والمركز الحكومي معا لينصرف إلى إعداد ما يلزم لحياته الثانية، الحياة الآخرة في دير من أديرة فلسطين.
ولم تصرف الوظيفة وجلالها يوحنا عن العلم والكنيسة التي كوَّنته وصقلت عقله. بل على العكس من ذلك اتخذ الوظيفة وسيلة للكنيسة والدين. وسيلة يتقرب بواسطتها إلى الرؤساء والزعماء ليخفف من شدة حدتهم إن كانت هنالك حدة ضد المسيحيين عامة وضد الأرثوذكس وضد البيزنطيين على الأخص، ولذلك كان رسولا سياسيا ودينيا في بلاط الخليفة في نفس الوقت. وقد عرف البيزنطيون ما حصل عليه قديسهم هذا من منزلة في بلاط (ملك العرب) المسلمين ولاسيما رجال الدين منهم وساسة الحكومة فكلفوه بمهمات صعاب مختلفة ووسطوه لحل مشاكل دولية معقدة. حتى تصوروا أن مركزه في سورية كان يضاهي مركز الخليفة بدليل إغداقهم عليه الألقاب التي كانوا يلقبون بها عادة خلفاء