هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الوجد وتباريح الغرام؟ هل استطاعت امرأة أن تخلب لبه وتفتن قلبه، فيشيد بها ويتغنى بجمالها ومحاسنها؟
إذا أردنا أن نتخذ شعر المتنبي دليلاً على ترجيح السلب أو الإيجاب، وإذا أردنا أن نرجع إلى ديوانه لندلي بالجواب؛ فإننا نستطيع أنه نقول بدون تردد إن المتنبي لم يعرف الحب ولم يعانه، فالذي يقول:
وما العشق إلا غرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب
وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب
إن الذي يقول هذا القول لا يمكن أن يكون من أهل الحب بل هو من الهازئين بالحب وأهله المشنعين عليهم الرامين لهم بالضعف، فالحب عنده غرة وطماعة، وليس من رأيه أن القلب يرمي من حيث لا يحتسب، بل من رأيه أن القلب هو الذي يعرض نفسه لهذه الغرة والطماعة فيصاب، ولو شاء هذا القلب ألا يصاب لما أصيب وهذا قلبه فإنه لم يشأ أن يصاب فلم يصب. ولم يسكت المتنبي عند هذا القول، بل ردده في مواضع شتى فقال:
مما أضر بأهل العشق أنهم ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم ... في إثر كل قبيح وجهه حسن
فالذي يراه المحبون حسناً فتفنى عيونهم به وتذوب نفوسهم ليس إلا الوجوه فقط، وأما النفوس فإنها قبيحة لا خير فيها، ولو أنهم اطلعوا على ما وراء هذا الحسن الخادع لما أضر بهم عشقهم، ولكنهم أحبوا وعشقوا، دون أن يمنعوا في التأمل بحقائق الدنيا، فلم يعرفوا دخائل من أحبوا، ولم يفطنوا إلى ما ينطوي عليه من غدر ومخاتلة وخداع. وهذا الرأي القاتم متأت ولا شك عن نظرة المتنبي للناس عامة ذكوراً وإناثاً، فلا تحسب المرأة أن المتنبي من أعدائها وحدها، فهو ثائر على الكون ناقم على البشر جميعاً، لأنه يرى نفسه مهتضماً مغيظاً لا يبل له أوام ولا يجاب نداء، وهذا الرأي هو صدى لرأيه القائل:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وبعد أن يعلن المتنبي رأيه بالعشق وأهل العشق يلتفت إلى الغانيات المغريات، فيجبههن