مَهاة من مَهَى مكة، ذات عينين خلقتا للحب، وفم برأه الله للغزل، وصوت رقَّقه للغناء، وقلب صغير إلا أنه فتيٌّ قويٌ زاخر، لأنه استطاع أن ينجو من إبليس، وأن يقاسم على مرضاة الله!
نشأت سلامة في كنف رجل تقي ورع محافظ، فكانت ترعى له البُهمْ في بطائح مكة تذهب بها خماصاً وتعود بها بطاناً، ثم تحلب وتطهى وتخدم، فإذا أوت إلى فراشها أخذت ترجع بصوتها المختبئ ملء صدرها وحلقها وطي لسانها، وتجد في ذلك الترجيع وهذا التسجيع لذة وراحة. . . حتى إذا زارت مكة جميلة المغنية، ونزلت في بيت ابن سهيل القريب من دار سلامة، وأخذت تملأ الدنيا كلها في هذا البلد الآمن غناءً، وتذيب قلوب أهله شدواً، كان قلب سلامة أول ناهل على ظمأ، وكان سمعها أول مستجيب على طول اصطبار، وكان لسانها أول مردد لألحان البلبل الغريد. وسمعها سيدها تجدف بهذا الغناء فنهاها عنه، ووكل إلى زوجته أمر مراقبتها، وإغرائها بترتيل القرآن؛ فأطاعت سلامة، لكنها كانت تطبق على آي الذكر الحكيم أصوات جميلة وألحانها، فلما سمعها مولاها جن جنونه واشتد في أمرها؛ وكانت سلامة ترعى البهم يوماً، فتركها تتخير من رطب الكلأ ما تشاء، وجلست هي تملأ الهواء بما ملأ صدرها من غناء، فما تنبهت إلا على صوت رقيق حلو ذي رنين يكمل لها اللحن ويضبط لها النغم، وإذا صاحب الصوت راع صغير يبتسم لها فتبتسم، وإذا هما يتعاهدان على أن يكون أحدهما معلماً والثانية متعلملة. . . بأجر زهيد. . . قبلة لقاء كل لحن!!
ويضيق بها سيدها لأنها لم ترعو عن هذا الغناء فيبيعها ابن سهيل صاحب القصر الذي نفذ منه إلى سمعها وقلبها غناء جميلة، والذي كان ندى الشعراء والمغنين في مكة، يغشاه ابن ربيعة والأحوص والغريض والعرجي ومعبد وكثيرون غيرهم. . . ويسلم ابن سهيل سلامة إلى زعماء الغناء فتثقف عنهم أحانه، وتصبح فتنة الفتن وريحانة القلوب. . . وإلى هنا لا تكون المأساة قد بدأت بعد! لأنها لا تبدأ إلا منذ هذه المصادفة التي تبدأ العاصفة في حياة