شديد على الرسالة أن تنعى الرافعي إلى ديار الحنيفة وأقطار العروبة بدل أن تزف إليها كعادتها درة من غوص فكره وآية من وحي قلمه! وعزيز على هذه القلم أن يتقطر سواده على الرافعي وهو نوره في مداده وسنده في جهاده وصديقه في شدته! وعظيم على العالم الأدبي أن يرزأ في الرافعي وهو الطريقة المثلى لغاية الناشئ، والمثل الأسمى لطموح الأديب، والحجة العليا على قصور القاصر!
يا لله!! أفي لحظة عابرة من صباح يوم الاثنين الماضي يلفظ الرافعي نفسه في طوايا الغيب كومضة البرق لفها الليل، وقطرة الندى شربتها الشمس، وورقة الشجر أطاحها الخريف؛ ثم لا يبقى من هذا القلب الجياش، وهذا الشعور المرهف، وذلك الذهن الولود، إلا كما يبقى من النور في العين، ومن السرور في الحس، ومن الحلم في الذاكرة!!
كان الرافعي يكره موت العافية فمات به: أرسل إلي قبل موته الفاجئ بساعات كتابه الأخير يشكو فيه بعض الوهن في أعصابه، وأثر الركود في قريحته؛ ويقترح علي نظاماً جديداً للعمل يجد فيه الراحة حتى يخرج إلى المعاش فيقصر جهده على الأدب؛ ثم يسرد في إيجاز عزائمه ونواياه، ويعد المستقبل البعيد بالإنتاج الخصب والثمر المختلف؛ ويقول:(إن بنيتي الوثيقة وقلبي القوي سيتغلبان على هذا الضعف الطارئ فأصمد إلى حملة التطهير التي أريدها. . .)
كتب الرافعي إلي هذا الكتاب في صباح الأحد، وتولى القدر عني الجواب في صباح الاثنين: قضى الصديق العامل الآمل الليلة الفاصلة بين ذينك اليومين على خير ما يقضيها الرخي الآمن على صحته وغبطته: صلى العشاء في عيادة ولده الدكتور محمد؛ ثم أقبل على بعض أصحابه هناك فجلا عنهم صدأ الفتور بحديثه الفكه ومزحه المهذب؛ ثم خرج فقضى واجب العزاء لبعض الجيرة؛ ثم ذهب وحده إلى متنزه المدينة فاستراض فيه طويلا بالمشي والتأمل؛ ثم رجع بعد موهن من الليل إلى داره فأكل بعض الأكل ثم أوى إلى مضجعه
وفي الساعة الخامسة استيقظ فصلى الفجر وهو يجد في جوفه حزة كانت تعتاده من حموضة الطعام. فلما فرغ دخل على ولده الطبيب فسقاه دواء، ثم عاد فنام. وهب من نومه في منتصف الساعة السابعة، وخرج يريد الحمام فسقط وا حسرتاه من دونه سقطة همد فيها