حادثان وقعا في نهار يوم وليلِه، لَها بهما من لَها، وتفكر فيهما من تفكر؛ وبات أثرهما الباقي يعمل في نفسي وفي رأسي ما يعمل الهم إذا جاش، والألم إذا برَّح، حتى أصبحت فإذا بي لا أجد في ذهني ما أكتبه إليك، غير أني أقص نبأ هذين الحادثين عليك.
نشب جناح أحد الغربان في مشتبك الغصون من أعالي (الكافورة)، وجهِد الطائر الأسير أن يخلص جناحه بالاضطراب والاجتذاب والخفق فما استطاع. وكان قد حط بالقرب منه غراب فهبّ ينعب نعيب المستغيث، ثم حاول أن يجتذب بمنقاره الجناح الناشب فأعياه ذلك، فارتد يثب من حوله صاعداً هابطاً وهو ينعب، حتى أقبل على صوت الاستغاثة غرابان، فحوّما هنيهة فوق أخيهما المصاب، ثم أطلقا في الفضاء نعيقهما المنذر. فلم تكن غير لحظات حتى تتابعت الغربان فكان منها على ذوائب الدوحة الفينانه عصابة، وعقدت هذه العصابة مناحة، وظلت هذه المناحة بقية النهار لا ينقطع لها صوت، ولا تفتُر بها حركة. وكأنما كانت الغربان تضرع إلى الناس أن يسعفوا أخاها المسكين بحيلهم البشرية؛ ولكن الناس كانوا قد تجمعوا على طِوارَىْ الشارع تجمع البَلَه، لينظروا إلى الحادث العجيب نظر الفضول! وقلما تجد بين البَلَه والفضول مكاناً للمروءة!
فلما دنا الليل واستيأست الغربان انصرف بعضها وبقي بعضها الآخر. ولم تقصِّر الأغربة الباقية في مواساته والترفيه عنه، حتى لقد زعم بعض أصحابنا أنه رأى غراباً يزقُه بالحب والماء. وانصرفنا نحن كذلك عن القهوة بعد موهن من الليل، وليس في نفسي غير هذا المظهر الأخوي الرائع في نوع من الطير لم يرسَل إليه رسول، ولم تُنشأ لتربيته جامعة؛ وما كنت رأيت ولا قرأت ولا سمعت من قبل ما يشبه ذلك في عالم الحيوان.
لم أكد أسكت المذياع بعد إعلانه الأنباء الأخيرة حتى سمعنا صراخ طفل حديث الولادة ينبعث في سكون الشارع على حال غير مألوفة. فأطَّلعت من النافذة فإذا الصراخ يتتابع من ركن مظلم أمام حانوت جارنا النجار. فظننت أول الأمر أن إحدى الوالدات جلست تسترفه من التعب، أو تستدني أكف المارة. وكانت امرأة من سواد الناس تمر في تلك اللحظة فعاجت بحكم غريزتها على الطفل الباكي، وجعلت تجسه بعينها ويدها، ثم صاحت تقول في ارتياع وحسرة: