فرنسا تحس وتعلم غاية العلم أنها فقدت كثيراً مما كان لها في العالم العربي من أمكنة ومكانات، وضيعت كثيراً من هيبتها وسمعتها لدى العرب، وأن الثقة القديمة بالروح الفرنسي والثقافة الفرنسية أصابها كثير من الزلزلة والشك والهزال بعد تلك الصدمات التي طوحت بفرنسا وسحقتها في معترك الأقوياء الذين أحاطوا بها من الشرق والغرب، وبعد تلك المواقف غير المشرفة التي وقفتها في سوريا ولبنان ولا تزال تقفها في المغرب العربي الواقع تحت حكمها القاسي الجامد المتغافل عن تيارات الحريات التي تحيط بالناس وتفتح أعينهم على عالم جديد وتكتسح العوائق والسدود.
فرنسا تعلم ذلك وتقدر ماله من نتائج على مستقبلها بل على حاضرها وتريد أن تتخذ الحيطة للاحتفاظ بما بقى لها من تلك السمعة المتداعية ولإنمائها إذا أمكن ذلك حتى تعود إلى المكانة السامية التي لم تكن تدانيها فيها حتى إنجلترا ذات السيطرة الرسمية وذات العلاقات الوطيدة في كثير من البلاد العربية. . لكن فرنسا من سوء حظها تخطئ في التماس الوسائل إلى إعادة سمعتها ومكانتها وتصطنع تلك الأساليب السطحية التي أصبحت لا تتصل بصميم ضمير الشعب العربي ووعيه ولا ترضى طبيعته التي شبت عن الطوق ولم تعد تنطلي عليها تلك الدعايات التي تتصل بالترف الذهني والعلاقات الكمالية وإرضاء بعض الطبقات الموشكة على الانقراض في الحياة المصرية، طبقات الصالونات والأندية التي تعيش بمعزل عن غمار الحياة اليومية المصرية والقومية العربية.
فإذا كانت فرنسا تريد أن تسلك السبيل القريبة إلى صداقة القومية العربية الناهضة التي أصبحت حقيقة سياسية ملموسة يحسب لها حساب في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد، والى صداقة المصريين الحقيقيين بنوع خاص فعليها أن تلتمس لذلك وسائله العملية وتترك أمر الدعايات الكلامية والسفارات الأدبية التي تجند لها بعض مفكريها وأُدبائها كمسيو جورج ديهامل الكاتب الشهير وتحملهم مشقة السفر وعناء الرحلة والحديث المكرر المملول عن فرنسا وخدماتها للثقافة ثم لا يكون من وراء ذلك طائل كبير ولا تبقى آثاره إلا ريثما ينقضي الحفل وتنفض سوامر الصالونات ولا يرسب من ذلك شئ في أعماق المجتمع