وقر في عقول أهل العلم الغربيين، وعقول من نهل من حياضهم من الشرقيين، أن الأديان التي احتضنت الجماعات البشرية منذ نشوئها إلى عهد قريب قد انتهى دورها، وانقضت رسالاتها، لعدم وجود نفع يرجى للجماعات الراهنة منها. وكثيراً ما أُسأل: هل رسالة الإسلام لا تزال قائمة؟ فأجيب: نعم، وأبد الدهر. ولست في تأكيدي هذا بواقع تحت سلطان العقائد الوراثية، ولا بمخدوع بالأوهام التقليدية، ولكني مستند فيه إلى علم، وماض فيه على بينة
ذلك أن كل مجموعة من التعاليم يحكم عليها بانقضاء دورها، حين تستنفد الحياة كل ما فيها من غذاء يناسبها، أو تتطور العقول وتظل هي جامدة لا تماشيها، فتترفع عن الأخذ بها؛ ولكن تعاليم الإسلام لا تجري عليها هذه السنة، فقد جاءت بالمثل العليا في كل ناحية من نواحي الحركة الروحية والعقلية والاجتماعية، فكيف يعقل أن تنتهي له رسالة، أو تزول له دولة؟
فأما من ناحية الحركة الروحية فإن الإسلام يصرح بأنه دين الفطرة الإنسانية، وهذه الكلمة أسمى ما يعبر به عن دين يخلد خلود البشرية. فإن الفطرة مودع فيها شريعة النوع كله بالقوة، وهي واحدة في جميع الأفراد لا تتعدد إن لم تفسد بدس تعاليم خارجية إلى النفس تحولها عن سمتها الطبيعي. وقد شدد الإسلام في النهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة بها في كل مناسبة؛ وقد زاد فحاطها بحوافظ قوية من ضروب مختلفة، فنبه النفوس أولاً إلى ضرر التقليد الأعمى للآباء والقادة، وأمر بطلب الدليل المقنع على كل عقيدة يتقدم بها داع لنحلة، وصرح بأن الإيمان التقليدي لا يقبل، وأن الإنسان مسئول عن عمله الشخصي، وأن أحداً لا يغني عنه شيئاً، وأن أكثر من في الأرض لا يتبعون إلا الظنون والخزعبلات الموروثة، وأن الدين يهتدي إليه الإنسان على ضوء العقل الناضج والعلم الممحص، وأن الإنسان يترقى في معارج الهداية بقدر ما يخلص في طلب الحق، ويتجرد من الأهواء والأوهام، ويثابر على النظر والفكر، ويستمع لكل كلام فيتبع أحسنه، ولا يأنف أن يأخذ بحقيقة يأتيه بها من يخالفه في دينه ولغته، وألا يصر على قول إذا ظهر له وجه الصواب في تركه،