ينشأ أدب الأمة المتبدية ساذجاً بسيطاً صريح التعبير قريب المتناول، مطلق السجية في الإعراب عن الشعور الإنساني، وتظل له هذه السمة حيناً، حتى تتحضر الأمة وينتقل الأدب من جو الطبيعة الطلق إلى حياة المدينة. بما تشمل من وسائل الحضارة المادية وأسباب الثقافة الذهنية، فيرتقي الأدب لذلك كله وتتسع جوانبه وتبعد أغواه، بيد أن الحضارة المادية التي توفرها المدينة لساكنيها ولا توفرها الطبيعة للمتبدين، ربما طغت فأفسدت على القوم حياتهم؛ وكذلك الثقافة العقلية التي في ظلها يرتقي الأدب رقياً عظيماً ربما زيفت على الإنسان شعوره، وتعاونت مع تلك الحضارة المادية على إفساد الأدب بتغليب الصنعة والتكلف فيه على الحساس الصادق، وتكبيله بالتقاليد والأوضاع، وتضييق حدوده وسد آفاقه، وإيلاء الألفاظ فيه المكانة الأولى دون المعاني
إذا بلغ الأدب هذا الطور الصناعي التقليدي انحط ولم يعد يسير إلا من تدهور إلى تدهور. وصار الأدب المتبدي على سذاجته أرقى منه واصدق، ولم يعد للأدب الذي غلبت عليه الصناعة من سبيل للنهوض، إلا الرجوع إلى الطبيعة والاقتباس من الأدب البدوي المرسل الطبع. والاطلاع على آداب الأمم الأخرى التي لم يرهقها التكلف ولم تفسدها الصنعة، بهذا وحده يتأتى له معاودة الحياة وأن يعود ترجماناً صادقاً مبيناً لها، وبغير تلك العوامل الخارجية هيهات أن ينهض الأدب العاثر من سقطته، وإنما يزداد إمعاناً في التكلف السمج جيلاً بعد جيل، وإغراقاً في اختراع كاذب الأخيلة والأحاسيس ومزجها بألاعيب الألفاظ، والخروج بكل ذلك عن كل ما يسيغه ذوق أو بقبله عقل
فحياة الطبيعة المطلقة في أعنتها، وحياة المدينة ذات الحضارة والثقافة، تتنازعان الأدب وتؤثر كل منهما فيه تأثيراً خاصاً، ولكل منهما مزايا هي قادرة على إيداعها الأدب: تمنحه الطبيعة شتى مناظر جمالها وصدق شعورها وبعيد آفاقها ورائع أسرارها ومخاوفها، وتمنحه المدينة وسائل التفكير العميق والنظر الثاقب والطموح إلى المثل العليا، وأسباب الإنشاء الأدبي الفني والجهد الأدبي المتصل، والتفنن في ابتكار صور الأدب وأوضاعه،