يحلو لي أن ادخل في المناقشة التي أدارها الكاتبان (النابغان) عباس العقاد وأحمد أمين حول النبوغ والبطولة. . . يحلو لي أن ادخل في هذه المناقشة خصماً ثالثاً، وإن كنت أكره لفظة (خصم) ولكن ما حيلتي وقد علمنيها القانون. . .!
لقد طالعت مقال الكاتب (النابغ) أحمد أمين، وأدركت نظريته التي بناها على أن النبوغ هو سبق النابغ لمعاصريه، حتى ليعجزوا عن اللحاق به، إلا بعد زمن قد يطول، وذلك حين يكون النبوغ عالياً ورفيعاً، وقد يقصر، وذلك حين لا يكون النابغ ممتازاً إلا بقدر. . .
ولقد ساقته هذه النظرية إلى نتيجة آمن بها، ودافع عنها، وضرب الأمثال العديدة على صحتها وسلامتها. والنتيجة هي التي استوقفتني، فدفعتني إلى التأمل فيما جاء بهذا المقال، ثم هي التي حفزتني على كتابة هذا الرد فالأستاذ أحمد أمين يرى أن نوابغ هذا العصر قلة، لأن أساليب التربية الحديثة، ونظام المجتمع الذي نعيش في ظله أشاع العلم، وأضعف الفوارق بين الخاصة والعامة، وأتاح فرصة التحصيل والتفوق للفقراء وذوي الثراء. وقد بلغ اقتناع الأستاذ أحمد أمين بهذه النظرية وبنتيجتها مبلغاً حمله على أن يضرب لنا الأمثال بالتلميذ في المدارس الثانوية، فهو بنظر إليه كل يوم، فيراه يطالع كتب الطبيعة التي تشرح قواعد الضوء والصوت، والحرارة والكهرباء، فيقول:(إنه يعرف ما يعرفه نيوتن، وأكثر مما يعرفه)، ثم يراه يقرأ كتب النحو والصرف، والبلاغة فيقوى يقينه بأن ما وصل إليه من نتيجة صحيح جداً فيقول:(إنه يدري من النحو ما لا يدريه سيبويه) ثم يطمئن إلى هذا الاستقراء فيقول لنا إذا كان محصول علمه يفوق علم جهابذة العلوم والآداب، وهو بعد تلميذ في المدارس، يخطئ ويصيب، وينجح ويتعرض للسقوط، ويذاكر ويشكو قسوة الامتحان، فكيف تظنون أن عهد النبوغ لم ينصرم بعد؟. وأين مجال التفوق أمام الموهوبين وذوي الجد ما دامت المدارس قد ذللت المعرفة وفتحت أبوابها على المصاريع؟
قد كان التفوق والنبوغ بالأمس ممكناً، لأن النابغة كان مبصراً وسط عمى، وصاحياً وسط مغفلين ومدركاً بين جهال، أما اليوم فأصغر علماء الطبيعة كأكبرهم، يعرفان من أمر هذا العلم وقواعده قدراً يكاد يكون متساوياً، فإذا وجد الفارق بين العالم الصغير والعالم الكبير