هذا أول كتاب من نوعه فيما أعلم؛ إذ قد جرت العادة في الكتب التي تؤرخ فيها العلوم والآداب، أن يشغل الحديث فيها عن كل فن أو علم بضع صفحات يلم فيها المؤلف بمجمل من تاريخ ذلك العلم أو الفن. فأما أن يملأ الحديث عن علم واحد كتاباً تصل صفحاته إلى الخمسين بعد المائة من القطع الكبيرة فذلك ما لم نعهده من قبل أن يخرج إلينا الأستاذ الجليل والعالم المفضال صاحب الفضيلة الشيخ محمد الطنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية كتابه (نشأة النحو)
والحق أن هذه التسمية (نشأة النحو) تسمية يتجلى فيها التواضع العلمي تمام التجلي فالكتاب ليس عن نشأة النحو فحسب ولكنه يتناول نشأته ودروجه ثم شبابه وكهولته ثم شيخوخته وهرمه وليس ذلك في قطر واحد من الأقطار العربية، بل هو حديث مفصل من كل هذه الأطوار في كل قطر من الأقطار. حديث يتناول المذاهب واختلافها وأسباب نشوئها وعلل تمايزها وينوه بالأعلام من رجالها وما كان لهم من آثار بارزة في خدمة علمهم وتجلية غامضة وتسهيل سبله
قد يتناول الباحث في تاريخ العلوم والآداب دراسة علم أو فن لم يدرسه دراسة وافية مستوعبة ولم يكن له به صلة وثيقة، فيكون همه جمع ما كتبه الكاتبون من ذلك العلم وترتيب أقوالهم بما يملك من قدرة على التقسيم والتبويب، فيخرج عمله معجباً من يطلع عليه، مرضياً من يريد الوقوف على تدرج هذا العلم وتسلسل أطواره، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يكشف عن أسرار العلم كما يكشف عنها عالم مارسه ودرس كتبه وألم بمسائله وأطال مناقشتها ووازن بين أقوال العلماء فيها، وتكونت له ملكة الحكم وبيان الصحيح الجيد من الزائف المبهرج. وذلك شأن مؤلفنا الفاضل في هذا الكتاب. فهو إذا وازن بين قولين رأيت الحجة في قوله واضحة المحجة، والبرهان يدعم البرهان؛ كالبنيان يشد