للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[القرية أمس واليوم. . .]

كان أكتوبر في الزمن السعيد يقبل على القرية إقبال الربيع، يفَّتق لوز القطن في الحقول، ويشِّقق ورد الصبى في الخدود، ويفتَّح نوّار المنى في القلوي، ثم يمر بيده الذهبية على نصب الفلاح فيزول، وعلى هم المدين فينفرج، وعلى غمرة المكروب فتنجلي، ويرسل الخصب مدراراً على المنازل الجديبة فيرتاش المقلُّ، وينعم البائس، ويتزوج الأعزب!

كنتَ في أكتوبر، شهر الغنى والزواج، ترى مزارع القطن رفَافة الوجوه، بسامة الصور، تنساب بين خطوطها البيض أسراب الغيد بجنين الثمرة الغالية، وهن يغنين الأغاني الجميلة، ويحلمن الأحلام اللذيذة، ويتخيلن هذا القطن الذي يجمعنه الآن بأناملهن، ويضعنه في أحضانهن، وقد اصبح الثوب الزاهي الذي اشتهينه، والقُرط الذهبي الذي ابتغينه، والزوج الحبيب الذي طالما تمنينه! فإذا جئت القرية وجدتها زَّخارة بالحياة، مَّوارة بالحركة، تمرح بحماس الشباب، وتموج بأطياف الحب، وتهزج بأناشيد الأعراس، وتتلقى جزاءها الأوفى على جهادها الصابر طول العام في فلاحة الأرض وخدمة المالك، وإعانة الحكومة.

فالطرق الآتية إليها من الغيط تسيل بالعذارى الأوانس يصفقن بالأكف المخضوبة ويحدون بالأصوات الندية، (والخواجات) يخرجون متعاقبين من بيت إلى بيت يساومون على (المحصول) بالأثمان المغرية، والشباب المرحون يسمرون إلى موهن الليل على الرباب والأرغول في بيوت الأفراح القريبة، وأشعة الخريف الفاترة تبعث في قلوب هؤلاء الخليين طلاقة العيش وجمال الوجود، فلا يشغلون بالهم بالزروع التي تذبل، والأوراق التي تسقط، والطبيعة التي تموت!

ذلك حديث القرية المصرية بالأمس، فهل أتاك حديثها اليوم؟ لم يعد وا أسفاه للقطن تلك القوى السحرية التي كانت ترد البؤس نعيما وتجعل النار جنة! ولم تعد الطرق السالكة إليه شادية بالغناء، ولا الأنامل التي تجنيه مخضوبة بالحناء، ولا الدور التي تحويه ألاقة بالذهب! فقد القطن ولواحقه من سائر الغلات معنى الرخاء فأصبح علاجها عناء خالصا لا روح فيه، وسعيا باطلا لا رجع منه!! وكان الفلاح قد أقام بيته وأدار حياته على هذا الحاصل، فكان يأكل حبوب الأرض ثم يرصده وحده لقضاء الدين وأداء الضريبة ووفاء القسط وسداد العوّز وأكلاف السنة، فلما بخست قيمته الظروف القاسية تزعزع البيت،

<<  <  ج:
ص:  >  >>