للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عبقرية محمد السياسية]

للأستاذ عباس محمود العقاد

السياسة على معان كثيرة في العرف الحديث. فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات، ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات، ولكل معنى من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث، وإن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية

وقد تولى النبي عليه السلام أعمالا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله، ولكننا لا نعرف بينها عملاً واحداً هو أدخل في أبواب السياسة وأجمع لضروبها وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعاً منذ ابتدأ بالدعوة إلى الحج إلى أن انتهى بنقض الميثاق على أيدي قريش

ففي عهد الحديبية تجلى تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود

بدأ بالدعوة إلى الحج فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته، بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه. فجعل له وللعرب أجمعين نصبة واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتهم، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوئة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشاً في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين

ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على الإسلام مما دعوا

<<  <  ج:
ص:  >  >>