حافظ شاعر النيل متعدد النواحي في الدراسات، متشعب المباحث في التناول، والتحليل الدقيق إنما يكشف كل ناحية ويبين كل مبحث، وليس الإلمام بعبقريته ونبوغه وشاعريته وخياله مما تأتي عليه هذه العجالة، ولكنا سنقتصر على ناحية واحدة هي وفاؤه للنيل وأهله، وكيف كان هذا الوفاء دفيناً في نفسه، مستقراً في جنانه العامر، يتحرك به لسانه في كل مناسبة، ويجري به قلمه كلما عنت فرصة.
والذي نلاحظه في شعر حافظ هو ما يحملنا على اليقين بصدق وفائه وإخلاصه، ومحبته لمصر وأهلها؛ فهو إذا انتقد كان لاذع النقد قويه، يظهر المثالب، ويعدد المساوئ، ويود لو نتخلص منها، ونحيد عنها. وقد يكون في النقد اللاذع المرّ شكاً في الوفاء والإخلاص لو أنه ضن بالنصيحة وبخل بالإرشاد. ولكن حافظاً حين يهزه الألم من حالة مصر حتى ليود الخلاص من الدنيا، والفرار من الحياة، وحين يسخط شديد السخط عليهم؛ لم يكن لكراهته لهم، وبغضه إياهم، وإنما لأنه يرجو لهم الخير الشامل الغامر، والرقي الدائم السديد، يحدثنا حافظ عن ذلك بأجلى عبارة وأوضح أسلوب.
أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلاً؛ ما بت أشكو النوبا
أمة قد فتّ في ساعدها ... بغضها الأهل، وحب الغربا
تعشق الألقاب في غير العلا ... وتفدّي بالنفوس الرتبا
وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا
ومما يقوي لدينا الأدلة على وفاء حافظ للنيل، وحبه لهذا الشعب أنه لم يكن يقنع بالتحدث عن الغرض الواحد عدة مرات بهذا الأسلوب العالي الرصين، كالذي نراه في وصفه للحالة الداخلية وموقف بعضنا من بعض، وموقف الصحافة منا ومن الوزارة، ثم موقفنا من دار المندوب البريطاني، وبيانه أن طريق الرقي هي العلم، وأنه الوسيلة في النجاح والظفر، وهو من وراء ذلك يضع أمله قوياً في الشباب، ويكثر من ندائه لهم، ولا يزال يستنهض