اجتمع في سهل صفين جمعان من العرب لم يشهد تاريخ ذلك الشعب اجتماع مثلهما في موقعة منذ الزمن القديم المعروف في التاريخ، فقد كانت المواقع القديمة لا تزيد على أن تكون معارك بين بضع مئات، فلما كان الإسلام سمعنا عن موقعة حنين وقد أعجبت المسلمين كثرتهم إذ كانوا عشرة آلاف. فلما خرج العرب إلى حروب الروم والفرس زاد عد الجنود فصار إلى عشرات الآلاف. فكان عدد العرب مثلا في اليرموك ستة وأربعين الفا، وكان عددهم في القادسية ثلاثين ألفا، وفي نهاوند كذلك ثلاثين ألفا. واما في صفين فلم يكن جيش علي بأقل من سبعين ألفا. ولم يكن جيش معاوية بأقل من تسعين ألفا.
وكان معاوية السابق إلى النزول في سهل صفين، فاختار لجيشه سهلا فسيحا متصلا بنهر الفرات في مكان يسهل الاستقاء منه. ولم يكن في ذلك الجزء من نهر الفرات الأعلى مكان غيره يمكن الشرب منه، إذ ان النهر يجري هناك في إقليم الجبال فيغلب على مجراه أن يكون عميقا قائم الجوانب سريع التيار.
ولعل معاوية كان يريد السبق إلى اختيار ذلك المكان ليكسب الموقعة قبل أن يلتحم الجيشان. فلما اقبل علي في جيشه رأى عدوه نازلا في خير المنازل وقابضا على ناصية الشريعة، وقد وقفت كتيبة من جيشه لتدافع عن مورد الماء إذا حاول عدوه أن يصل اليه.
كانت خطة علي في حروبه أن يأمر جنده بالكف عن القتال حتى يحاول حل الخلاف بالحجة والمسالمة. حقا لم تفده هذه الخطة في كثير من المواطن، ولكنه لم يخرج عنها مرة واحدة في حرب من حروبه. وقد كان في هذه الموقعة جاريا على عادته هذه، فانه أمر أصحابه ألا يتعرضوا لأحد من جيش معاوية حتى يراسله فيما جاء له. ولكن العطش ألح على أصحابه، فالتمسوا مكانا على النهر يستطيعون أن يشربوا منه فلم يستطيعوا، فأرسل علي إلى معاوية يطلب اليه إباحة الماء لأصحابه. فلم يكن بد من القتال على الماء قبل محاولة المفاوضة فيما جاء له الجيشان.
وكان بطل القتال في ذلك اليوم الأول رجلا أسمه الأشعث ابن قيس، كثر تردد اسمه فيما بعد في آخر الموقعة. وقد كان من قبل خلافة علي عاملا لعثمان علي أزربيجان، فلما قتل