أمل حلو زاد التعلق به فلبس ثوب الحقيقة، وخيال عذب طاب لنا أن نسبح وراءه فاكتسى بكساء الواقع، وغيب شغفنا بالبحث عنه حتى كدنا نبرزه في مظهر الحاضر، وسلوة نتسلى بها عن الحرمان أو عثور الجد وسوء الطالع، وثار من الموت ذلك الخصم العنيد الذي يحمل الشاب على الرحيل في عنفوان شبابه، ويرغم الشيخ على السير وأن تباطأ به ركابه. فهو إذن عون على الحياة وامتداد لها: عون على ما فيها من بؤس وشقاء والآم وويلات، وكثيرا ما نستطيب شدة اليوم في سبيل فرج الغد؛ ووصلة لأجل وإن طال قصير، وعمر وإن بغل أرذله عزيز، وعيش وإن ساء مرغوب فيه. وربما كان حب الحياة أول ملهم بتجددها، وكانت غريزة الاحتفاظ بها أول دافع للقول باستئنافها. وقد صور الإنسان هذا الاستئناف وذلك التجدد بصور شتى وأشكال متباينة هي في جملتها صدى لرغباته ونزعاته وميوله وأهوائه، أو انعكاس لعالمه الحاضر والحياة التي يحياها. فتصور الهمجيون الذين يعيشون عيشة السلب والنهب والقتل وسفك الدماء الخلود على أنه عودة للإنسان في شكل مارد جبار شيطان رجيم يثأر لنفسه ممن عدا عليه. وظنه بعض المتحضرين ضربا من اليقظة يرفل فيه المرء في حلل السعادة وآيات النعيم، ولهذا أعدوا في القبور وسائل الزينة والزخرف ولذيذ الطعام والشراب. ثم جاءت التعاليم السماوية فصورته في صورة أسمى، وكسته بكساء أفخم، وأغدقت على الحياة المقبلة متنوع الأوصاف بين مادية وروحية وحسية وعقلية كي تقنع العامة والدهماء وترضي المفكرين والعقلاء
كم كنا نود أن يبقى للخلود حلاوة الأمل فنسير وراءه سيرا أعمى، وعذوبة الخيال فنتعلق به في شوق وحرارة راغبين مخلصين، وحرمة الدين فنؤمن به إيمانا جازما لا يساوره شك أو ارتياب ولا يعزوه برهنة أو استدلال. ولكن العقل الذي منحنا إياه وبلينا به في آن واحد يأبى إلا أن يعكر علينا بعض الصفو ويحرمنا من أحلام لذيذة. فيفلسف ما لا صلة له بالفلسفة، ويبحث ويعلل فيما يسمو عن البحث والتعليل، ويقيس ويستنبط فيما لا يخضع لمبادئ القياس والاستنباط. وقد سرت عدواه إلى موضوع الخلود منذ عهد بعيد، فأخذ يتفهم