كل إنسان من الناس لا يعد الاغتياب اغتياباً إلا إذا كان قد أتى من غيره في حقه أو في حق عزيز عنده أو مرضيًّ عنه لديه. أما إذا أتى الاغتياب من غيره وقُصد به انتقاص غير عزيز عنده ولا مرضيٍ عنه؛ أو إذا كان هو الذي يغتاب فإنه لا يعد الاغتياب في هذه الحالات اغتياباً بل يعده مكرمة وفضيلة، فيعده انتصاراً للحق وهداية إلى الفضيلة وإظهاراً للنقص ومحاربة للرذيلة وتحذيراً للسامع من الشر. وهكذا تتغير حقائق الأمور حسب أهوائه، وبذلك يسيطر على ضميره ويخدع ضمائر الناس. فالاغتياب منه فضيلة ليس بعدها فضيلة؛ أما من غيره فالاغتياب دليل على لؤم النفس وخساستها. وهو إذا اغتابه أحد الناس لم يعد اغتياب المغتاب له فضيلة وهداية إلى الفضل ومحاربة للنقص كما يعد الاغتياب الذي يجيء من نفسه في حق الناس. وكثيراً ما يلجأ المغتاب إلى أساليب عجيبة كي يقبل اغتيابه فيقول: إني لا أريد أن أنتقص فلاناً أو أن أذمه فإنه رجل فاضل، ثم يغتابه بما لا يترك له فضلاً ولا فضيلة. وقد يمدح عمل الرجل في صنعته كي يقبل الناس ذمهُ له في أخلاقه؛ وذلك لأن الفضل في العمل قد لا يخفى على البصير الحاذق الذي يستطيع أن يزن فضل القول أو العمل في الصنعة أو المهنة. أما فضل الأخلاق فأكثره غير مكتوب في طرس ولا مرصوف في بناء ولا منحوت في تمثال حتى يزن الوازن فنه ولونه وحقيقته، بل أكثره وديعة في نفوس الخلطاء أو من ليسوا بخلطاء ولا عشراء إذا كان المرء معروفاً بالذكر عند من لا يعرفه في حياته الخاصة. والخلطاء قد لا يؤدون الأمانة وافية ولا الوديعة غير منتقصة وغير الخلطاء إنما يحكمون بالصدى
وكثيراً ما يرشو المغتاب سامعه بالمدح إذا كانت إثارة شره وحقده على من يعرفه أو لا يعرفه تحتاج إلى مدح المغتاب لسامعه الذي يريد إثارة شره، أو قد يهدد المغتاب سامعه بالذم إذا لم يقبل أن يُستشار شره وحقده على ذلك الغائب الذي يغتابه المغتاب، وقلما يجرؤ أحد الناس إذا سمع ذماً لغائب أو شبه غائب على رفض الذم وتزكية المذموم خشية أن يعد الناس مدحه للمذموم مشاركة له في نقصه الذي ذمَّ به، فترى أكثر الناس إلا من ندر إذا اغتاب إنسان إنساناً يسرعون إلى إظهار تصديقهم قوله خشية أن يعدوا مشاركين للغائب