ربما صاحب (الأنات الحائرة) مثلاً فريداً في تاريخنا الأدبي كله: أبدر قمره وهو هلال يلوح، وأينع ثمره وهو زهر يفوح، واكتمل شعره وهو قصيد ينوح؛ فلم نكد نرى الشاعر وجدانياً يرجِّع الأنات على قبر (زين)، ويوقع الذكريات على ضريح (خديجة)، حتى رأيناه روائياً يحتجب وراء الأستار، ثم يقول قول الفلاسفة، ويفعل فعل الآلهة، فيبعث الأموات، ويخلق الأشخاص، ويعيد الأحداث، ويصور الأخلاق، ويمثل العواطف، ويفلسف الحياة، ويرسم البيئة، ويستخلص العبرة! وبين الشعر الوجداني والشعر الدرامي دهر طويل وشوط بعيد لابد منها ليستطيع الشاعر أن يخرج عن ذاته، وينقل عن حياة غيره لا عن حياته؛ ولكن شاعر المآسي نضج باكراً من حرارة الحزن، وفاض طاغياً من فوران الحس، وانفجر صارخاً من برحَاء الألم. فهو فريد في بزوغه، فريد في نبوغه، فريد في تطور شعره، فريد في استفاضة ذكره، فريد في كل ما يتصل بشاعريته حتى في الإرشاد بها والإثابة عليها؛ فقد تفضل صاحب الجلالة فاروق أعز الله نصره، وجمل بالآداب والفنون عصره، فأنعم على مؤلف العباسة بالباشوية، وما علمنا قبل عهد الفاروق ومجد عزيز أن رجلا أصبح باشا لأنه شاعر! والذي نعلمه أن الخطباء في عهود الحضارة العربية قد نالوا الإمارة، والكتاب قد بلغوا الوزارة، ولكن الشعراء كانوا كالمغنين والموسيقيين؛ شيئا من زينة الملك وترف الدولة بنادمون الخليفة ولا يدخلون في بطانته، ويطربون الشعب ولا يحسبون في قادته. فإذا أصبحنا ننظر إلى الشاعر العربي النابغ نظر الإنجليز إلى شاعر الملكية شكسبير، أو إلى شاعر الإمبراطورية كِبِلْنج، فإنما يرجع الفضل في هذا النظر الجديد الشديد إلى عطف ملكنا فاروق وفن شاعرنا عزيز!
ليت الشاعر أو الذين رصدوا كوكبه وسايروا هواه من لداته وثقاته
حللوا عوامل هذا النبوغ المفاجئ، وسجلوا أطوار هذا الشعر المحكم،
فإن رجال الأدب يستبعدون ان يولد شاعر بهذا الكمال، ويوجد شعر
بهذا الجمال، وفي صيف عام واحد والراصد البعيد يرى في الأمر أثراً