المعتزلة من أعلى الفرق الإسلامية تفكيراً وأخصبها إنتاجاً وأبعدها أثراً في فسح آماد الفقه وتقعيده على قواعد من المنطق لم تكن لجدتها مألوفة ولا مقبولة من جمهور فقهاء الإسلام. وهي إلى التزامها جانب الطرافة في التفكير وأخذها النفس بتحكيم العقل الإنساني في تفسير ما تبهّم من معميات الوجود وألاغيز النفس وأسرار العمران البشري، ليست تنجو من إغراق وتطرّف لعلهما كانا لازمة من لوازم النفاح عن العقيدة والوثوق بما يرتئيه العقل من رأي، وما يتأدى إليه التفكير العميق من مبدأ، وما يرتصد له من فكرة. وليس بعجيب البتة أن يسبق رجالها إلى استنباط فكرة (القانون الطبيعي) الذي يستلهم دستوره في التشريع واستنباط الأحكام من وحي العقل الخالص من لوثة الهوى، المصون من نزوة الغريزة؛ وهم الذين تطلّقوا في النظر والبحث من قيود التقليد وتحرروا من اندفاع المجاراة، فلا جرم تتبدى ثمرات قرائحهم في مسوح من الغرابة، ولا يقبل على تناولها جمهور الأمة الإسلامية وقتئذ إلا في كثير من الحذر والشك والتحرج والارتياب!
كانت الحركة الفقهية في مطالع النهضة العامة للمجتمع الإسلامي وفي أواخر عهد الراشدين وطيلة خلافة الأمويين فالعصر الأول من دولة العباسيين، قد اتخذت أسلوباً من النشاط ولوناً من النماء لم يعهده هذا المجتمع من قبل، فكان طبيعياً أن يتأدى بالفقهاء نشاطهم إلى ولوج أحرج مشاكل الفقه، وأكثر موضوعاته جفافاً وعمقاً. وكان حتماً أن تقودهم عقولهم المتلهفة العطشى إلى النظر في فلسفة التشريع والبحث في حقيقة المبادئ والقواعد التي تسير عليها أحكام الله وأحكام الإنسان، ليتخذوا من هذه وتلك دستوراً لا يخطئ في فهم المشيئة الإلهية والحكم على حُسن أو قبح ما يتهدى إليه تفكير الإنسان، وما يطوعه له كسبه الاختياري المركوز في طبيعته من أقوال وأفعال.
فلما اتفق جمهور الأمة الإسلامية على أن مُعرّف حكم الله بعد مجيء الرسل هو الرسول نفسه الذي يتلقى عن طريق الوحي شرع السماء، ويبلغه إلى من بعث إليهم ليؤدي رسالته، ظهر فريقان كبيران من المسلمين حاول كل منهما أن ينفذ بالنظر العميق والذوق السليم إلى