والآن وقد استعرضنا سيرة ذلك الجّواب المرح والمغامر الجريء، نحاول أن نستعرض جوانب شخصيته ومناحي نفسه، وأن نقرأ في حوادث حياته لمحة من خلال العصر الذي عاش فيه:
كان القرن الثامن عشر عصر تطور فكري واجتماعي عميق، وكان أيضاً عصر انحلال فكري واجتماعي، وكان المجتمع الأوروبي القديم ينحدر يومئذ إلى نوع من الخمول والدعة، ويجنح إلى تذوق متاع الحياة المادي بكل ما وسع من رغبة وهوى؛ وكان كازانوفا يمثل روح عصره وخواص عصره، بل كان يمثل رذائل عصره أتم تمثيل وأصدقه؛ وكان يمثل بالأخص الجانب المادي من هذه الخواص والرذائل، فكانت خلاله مزيجاً من الاستهتار والمرح، والجرأة والطموح، والعزم والخمول؛ وكانت غاية الحياة عنده هي الحياة ذاتها بما فيها من متاع ولذائذ وترف. كان كازانوفا يحب الحياة حباً جما، وهو يصفها في مذكراته (بأنها هي الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان حقا)، ويشبهها (بغانية حسناء يعشقها الإنسان، ويهبها ما شاءت مادامت باقية عليه)؛ وهذه الفلسفة المادية المحضة هي التي تغمر حياة كازانوفا وتوجهها
وهذه النظرة المادية إلى الحياة، وهذه الفلسفة المستهترة المرحة، وهذه الخواص السقيمة المنحلة، تقدمها إلينا مذكرات كازانوفا بصورة بارزة؛ والواقع أن هذه المذكرات الشهيرة التي تشغل عدة مجلدات كبيرة، إنما هي صورة قوية جامعة لمجتمع القرن الثامن عشر وخواصه وفضائله ورذائله؛ وهي ليست قصة كازانوفا فقط، ولكنها قصة جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية في هذا العصر؛ ففيها نرى حياة المغامر الجريء، والمشعوذ الأفاق، والعاشق المضطرم، والسيد المنعم، والشريد البائس؛ وقد كان كازانوفا كل أولئك، وكان له