كل خلالهم، ورذائلهم، وهؤلاء جميعاً يملئون فراغ حياته
وهذه المذكرات الشهيرة هي أسطع ما في حياة كازانوفا، وهي التي خلدت ذكره. ذلك أن كازانوفا لم يكن في ذاته شخصية هامة ولم يكن من رجال التاريخ، ولكن حياته العجيبة تقدم إلينا مزيجاً مدهشاً من الفلسفة المادية والاجتماعية يستحق الدرس لذاته؛ وقد عني في أواخر أيام حياته أن يدون سيرته بكل ما فيها من حوادث مدهشة، وفلسفة مرحة، وفضائح مزرية، وكل ما فيها من شذوذ وخبائث. وقد رأيناه في أواخر حياته يستقر في قصر دوكس، في ذلك المقام النائي المنعزل، ويقطع أوقاته بالقراءة والكتابة؛ وكان كازانوفا أديباً مفكراً، حسن البيان والأسلوب؛ وكان تدوين سيرة حياته أعظم عزاء له في شيخوخته؛ فقد كانت هذه الصحف الممتعة تحمله من ذلك القصر النائي، ومن غمار الشيخوخة والعزلة والبؤس، إلى الماضي الباهر؛ إلى الأيام الخالية بكل ما فيها من متاع وترف، إلى أمسية الحبور والمرح، إلى المدن والمجتمعات التي جابها، وإلى مختلف النساء اللائى ظفر بهن. وكان أثناء حياته الحافلة قد جمع كثيراً من المذكرات والمواد لكتابه، ومنها رسائل من أصدقائه وصاحباته، ومذكرات كان يدونها على الأثر، هذا إلى ما تعيه ذاكرته القوية من الحوادث والتفاصيل
وقد بدأ كازانوفا كتابة مذكراته في سنة ١٧٩١، واستمر في كتابتها عدة أعوام، ولبث يستعيدها ويهذبها حتى سنة ١٧٩٨، قبيل وفاته بأشهر قليلة؛ وكان يكتبها بشغف وتأثر، إذ كان يرى تلك الحياة الساطعة الذاهبة تمر أمام عينيه وتبعث إليه ذكريات المجد والصبا؛ وكان يعتزم إصدار الجزء الأول منها منذ سنة ١٧٩٧، ولكن الموت عاجله، ولم يتح له تنفيذ أمنيته
ولم تظهر مذكرات كازانوفا إلا بعد وفاته بحين؛ وكان ظهورها حادثا أدبياً كبيراً. ذلك أنها لم تكن فياضة بالسير العجيبة فقط، ولكنها كانت أيضاً قطعة فنية بديعة تنعكس عليها جميع أحوال العصر الذي عاش فيه صاحبها، أعني القرن الثامن عشر، وجميع صوره وأحوال مجتمعه. وتشغل هذه المذكرات الممتعة عدة مجلدات كبيرة، وهي عمدتنا الأولى في سيرة كازانوفا وفي تفهم نفسيته وخلاله، وفيها يقص حياته منذ مولده بإفاضة، ويستعرض جميع وقائعه ومغامراته الغرامية مع نساء العصر من كل الطبقات، ويصف رحلاته العديدة إلى