لو أن كل متخصص في نوع من العلوم أو لون من الفنون قدر قيمة درس وأخلص في خدمة ما أهلته الحياة أو الدولة له لظفر العلم والأدب بأوفى نصيب من الإنتاج ولجنت الدولة والأمة أينع الثمرات. ولكن تختلف والبواعث تتفوات لهذا اختلفت القيم وتباينت الشخصيات
وكم سافر أناس في بعثات بعد أن اختارتهم الدولة وآثرتهم الأمة فمنهم من أنشغل بمآرب قضاها الشباب هنالك، ومنهم من عاد فأعجب بالمنصب مع زخرف اللقب ولم يفعل غير ذلك، وقليل منهم من وهب الرشد وقوة الجلد فلم يكن من هؤلاء ولا من أولئك.
أقول هذا بمناسبة ما ألفه أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس من كتب متعددة في موضوعات مختلفة كانت كلها ثمار غرس أحسن القيام عليه والعناية به على ضوء ما درسه وتخصص فيه فأسرى وأمثاله، وأنتج وأشباهه خاملون. وأخر ما جلته قريحته هذا الكتاب الذي جعل عنوانه (من أسرار اللغة) عاد أستاذنا من إنجلترا ١٩٤٢ ونحن إذ ذاك طلبة في السنة الرابعة بدار العلوم فدرس لنا فقه اللغة وكنا على طريق نقيض نحن متعصبون للقديم من آراء اللغويين لا نريد منه فكاكا وهو متشبع بالأبحاث الحديثة لا يؤثر عليها قيودا، ومازال يداورنا فلتزمت ونقف في طريقة فينساب ولكنه احدث في جمودنا ثقوبا شعت منها أضواء بعد أن جعلناه يلتفت شيئا ما إلى الوراء ثم دارت الأيام ونفذ أستاذنا إلى خفايا الكتب العربية ليعيد فيها النظر على أضواء خبرته ودراسته وبدأت جهوده المتوالية المباركة تؤتى ثمارها كتباً قيمة ومحاضرات ناضجة بنيت على أحدث النظريات مدعمة بكثير من أقوال العلماء السابقين إن فصول الكتاب وأبوابه، وطريقه عرض الأفكار وتسلسلها، تعجب القارئ وتمتعه ويلذ له ما فيها حتى لو كان بعض ما فيها من استنتاج مبنى على افتراض