في مثل هذه الأيام من كل صيف مضى، كان الناس - أو قل كان من الناس من تسمح لهم مقدرتهم وأوقاتهم بقضاء اشهر أو أسابيع أو أيام مع عروس البحر الأبيض كما يدعونه - يرون الإسكندرية، وقد بدت عروسا سعيدة في اكمل زينة أبهى منظر
كان هؤلاء يلجئون أليها، هاربين من حرارة الصيف لا يطيقونها، يرجون عندها معاني الراحة والاطمئنان، وينشدون فيها الهناءة والسعادة. فتتلقاهم الإسكندرية مرحبة بهم، مكرمة لهم، باذلة كل جهد لتكون عند حسن ظنهم بها، غير مترددة في أن تظهر أمامهم - أو بهم - في صورة من الحرية المرحة أو السرور المطلق، نازعة عنها قيود التقاليد الموروثة، متحملة كثيرا من أنواع النقد اللاذع، يتقاذفها كخظم هائج لا كموجها الهادئ. . . حين تسرف في إكرامهم، ولكن في ألوان المتعة الساخرة الساحرة!
كانوا يلجئون إليها في مثل هذه الأيام من كل صيف، يقاسمونها ما وهبها الله من نعمة الطبيعة، ويشاركونها فيما منحتها الطبيعة من سحر، ولا أنكر انهم كانوا يعطونها شيئا ما مما أعطتهم الأيام، ولكنهم كانوا أخيرا يتركونها إلى حيث يعودون جميعا، وقد بقيت وحدها حتى الصيف التالي رمزا للعبث كما يراها بعض من الناس، أو صورة لأمنية سعيدة في خيال بعض آخر لم تحقق له الأيام رجاءه من القدرة على أن يكون من روادها السعداء
يعودون، لتستقبل جماعة منهم العمل، ولتستقبل جماعة أخرى أنواعا جديدة من لذة الشتاء، وتبقى أذهان هؤلاء وأولئك ثملة برحلة الصيف، سكرى بذكرياتها، تستمد من تلك الذكريات الجميلة عونا على قضاء الأيام حتى تستقبلهم الإسكندرية مرة أخرى، طروبا ساخرة
اشهدوا الإسكندرية كرقصة مرحة صاخبة يأخذ كل قادر منها بنصيب، ثم لا يهدأ إلا ليأخذ منها بنصيب جديد. . . واسمعوها كأغنية عذبة طويلة من مطرب موهوب محبوب، لا تكاد تنتهي حتى يرجو السامعون لو أعيدت من جديد. . . وحتى بعد أن قضى على أنوارها الباهرة بان تلبث ثوبا من الزرقة القاتمة منذ سنين. اسمعوها في الليل كقطعة موسيقية صامتة تلعبها أنامل عازف ماهر على أوتار القلوب!