للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من وحي الهجرة]

بعث الله النبي الكريم على فترة من الرسل، في عصر غير ذي دين، وجيل غير ذي خلق، وبلد غير ذي زرع. فلقي صلوات الله عليه من سفه الجاهليةوكلَب المادية وكيد العصبية وحرمان الفقر وخذلان القلة ما لا يسعه طوق بشر إلا بروْح من الله وسند من الإيمان وعون من الخلق.

حمل محمد رسالة الله وهو فقير ضعيف، وحمل أبو جهل رسالة الشيطان وهو غني مسلَّط، فحوّل مكة المشركة جبلا من السعير سدَّ على الرسول طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتفور بالعذاب. وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبي لهب بالأذى والهون والمعاياة والمعارضة. وكل قرشي كان يومئذ أبا جهل أو أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن كفار مكة ومشركو الطائف في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي أهله وفي صحبه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لأن ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (دار الندوة) فقرَّر القتل، وتدخل الله بروْحه في (غار ثور) فقدَّر النجاة. وانطلق محمد هو وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المؤتمرين في الطريق الموحش الوعر حتى بلغوا طيبة. وهنالك بالصبر والصدق والإيمان والرجولة أثمر غرس الدعوة وتم نور الله.

كان يوم الهجرة الذي جعله عمر الحكيم العظيم تاريخاً للمسلمين يحسبون منه أيامهم، ويؤرخون به أحداثهم، خاتمة وفاتحة: كان خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام القواتل تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ وكان فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، أعلن العرب فيها كلمة الله، وبلغوا رسالة الحق، وحملوا أمانة العلم، وأرشدوا الضال فاهتدى، وحموا الذليل فعز، وعلموا الجاهل فتعلم، ومكنوا في أرضهم الفسيحة ودنياهم العريضة لعناصر الجمال والخير فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت من كل مذهب، وانتشرت في كل أفق؛ وحققوا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه، من الأخوَّة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب بها المدارك؛ لأن رسالة محمد لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل

<<  <  ج:
ص:  >  >>