ألقى الأستاذ ساطع الحصري يوم السبت المحاضرة الثانية من سلسلة محاضراته التي يلقيها في الجمعية الجغرافية الملكية. وكان موضوع هذه المحاضرة (نشوء الفكرة القومية في النمسا والبلقان - تأثير اللغة والتاريخ والكنيسة فيها).
وقد عنى الأستاذ في هذه المحاضرة بإبراز تأثير اللغة في بعث القوميات تأييداً لما أبداه في المحاضرة السابقة من ترجيح كفة النظرية الألمانية القائلة بأن القومية كائن حي روحه اللغة، ضد النظرية الفرنسية التي ترى أنها إنما تقوم على مشيئة الأمة؛ ولذلك استعرض دول البلقان مبينا ذلك في كل واحدة منها، فاليونان كانت موحدة اللغة والثقافة بفضل الكنيسة التي تركها العثمانيون حرة في شعائرها، وقد حفظت الكنيسة اللغة اليونانية وثقافتها في بلاد اليونان بل نشرتها فيما جاورها من البلاد، ولهذه الوحدة اللغوية الثقافية التي يضاف إليها التاريخ القومي وجهود الكنيسة كانت بلاد اليونان مهيأة لنشوء الفكرة القومية فيها ومستعدة للثورة في سبيل استقلالها وقوميتها، فلم تكن الثورة تنتظر غير الإشارة. وفي بلغاريا كان الأمر على عكس ذلك، لأن الكنيسة اليونانية كانت هي المتسلطة على البلاد البلغارية بسلطانها الديني الذي يستتبع فرض اللغة اليونانية في الصلاة وسائر الشعائر الدينية وفي كل ما يمت إلى الثقافة، ولم تكن اللغة البلغارية ذات أدب ولا ثقافة، بل لم يكن لها نحو ولا صرف، وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت الجهود تتجه إلى ترقية اللغة البلغارية واستعمالها في الدين والثقافة، أي الاستفناء بها عن اليونانية. وجاهد البلغاريون في هذا السبيل رغم ما لاقوه من مقامات وعقبات، حتى وصلوا إلى ما أرادوا من إحياء لغتهم، ثم التفتوا إلى كيانهم السياسي فعملوا على استقلالهم حتى تحقق.
وكذلك فعلت رومانيا في كفاحها اللغوي مع اليونان والسياسي مع الدولة العثمانية، وإن كانت الحال فيها تختلف عن بلغاريا من عدة وجوه، منها التاريخ، إذ استشعر الرومان مجد أبطالهم القديم.
أما يوغسلافيا فكانت قسمين: قسم يتبع تركيا وقسم يتبع النمسا، وقد قامت فكرة القومية في القسمين على توحيد اللغة. ولما ساعدت الظروف القسم الأول على الاستقلال قبل الثاني