(هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعال في إظهار مواهبك الأدبية) هذا السؤال ألقته مجلة أدبية فرنسية على الروائي دورجليس فأجاب: (إن الرجل الذي يهجم على الأدب وهو مزود بتكوينه المدرسي وحده لا يمكن أن يكون غير كاتب ضعيف). وقال الشاعر بول فاليري في مثل هذا المقام:(إن أساتذتي في المدرسة كانت لهم على الأدب فكرة تدعو إلى الرثاء. يخيل إليَّ أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقررة رسمياً في المناهج الدراسية)!
لو سئلت أنا أيضاً لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى. فلقد فعلت
المدرسة كل شيء لتنفرني من الأدب وتخيفني من اللغة فوضعت بين
يدي أسمج الكتب العربية معنى وفكراً وأعسرها لغة وأسلوباً وأبعدها
عن مخاطبة النفس المتفتحة لجمال الخليقة. لقد علمتني المدرسة
كراهية الشعر العربي.
وقد لبثت زمناً لا أطيق الإصغاء إلى بيت واحد من ذلك الشعر السخيف الذي أرغمنا على حفظه إرغاماً. شعر ليس فيه قطرة من ماء الشاعرية. إنما هو ضرب من تلك الحكم والمواعظ المنظومة التي لاكتها الألسن ومضغتها الأفواه حتى أصبحت (تفلاً) جافاً لا نفع فيه. تلك هي مادة غذائها الذهني. أما إذا اجتهدنا فقرأنا كلاماً جميلاً خارج المدرسة فإنا لن نلقي من المعلم غير التجهم والاستنكار.
وأذكر أن الأدب الإنجليزي أوحى إليَّ كتاب قصة تمثلية صغيرة وأنا في المدرسة الثانوية فرفعتها فخوراً إلى مدرس الأدب العربي فكان جزائي الإهمال المهين. على أن من الإنصاف أن أذكر أن معلماً شجاعاً تجرأ يوماً فأطلعنا على أبيات عذبة رائعة للعباس بن الأحنف فأشرقت وجوهنا وانطلقت من قلوبنا آهة العصفور الذي أفلت من قفص وحلق في فضاء الطبيعة الباسمة الجميلة فأرتعد المدرس المسكين والتفت إلى باب القاعة خائفاً كأنه اقترف جرماً هائلاً. منذ ذلك اليوم أدركت أن هنالك كنوزاً في عالم الأدب والشعر يخفونها عن عيوننا المتطلعة.