هذه خطبة معلم فرقوا بينه وبين أولاده فودعهم بها ووصاهم وبكاهم، وإني لآسف أن يكون في صاحبنا المعلم الأديب هذا الضعف وهو يدعو إلى أدب القوة، ولكن ماذا يصنع؟ أليس له قلب؟ أليس بإنسان؟. . .
أولادي!
انتظروا! لا تخرجوا كتبكم، ولا تفتحوا دفاتركم، فما جئت لألقي عليكم درساً، وإنما جئت لأودعكم. إن الوداع صعب يا أولادي لأنه أول الفراق، وما آلام الدنيا كلها إلا ألوان من الفراق: فالموت فراق الحياة، والثكل فراق الولد، والغربة فراق الوطن، والفقر فراق المال، والمرض فراق الصحة. . .
إن الوداع صعب ولو إلى الغد، فكيف إن كان المودَّع صديقاً عزيزاً، فكيف إن كان ولداً، فكيف إن كانوا أولاداً؟
أنتم أولادي، أولادي حقيقة لا أقولها مجاملة ولا رياء، ولا أسوقها كأنها كلمة تقال، ولكن تنطق بها كل جارحة في، واحسها من أعماق قلبي!
ولم لا؟ ألستم تحبونني وأحبكم؟ ألم أفكر فيكم دائماً وأخاف عليكم؟ ألم تروني آلم إذا تألم أحدكم، وأثور إذا تعدى أحد عليكم؟ ألم أفتح لكم قلبي حتى اطمأننتم إلي وأنستم بي، وخرقتم حجاب الخوف الذي كان بيني وبينكم، كما يكون بين كل معلم وتلاميذه، وغدوتم تدعونني لأشارككم في ألعابكم، وتقصون علي أخباركم وتبثوني أحزانكم، وتنبئوني بأسراركم، وتشكون إلي ما يصيبكم من آبائكم وأهليكم؟ فأي صلة بين الآباء والأبناء أوثق من هذه الصلة، وأي سبب أقوى من هذا السبب؟
أنتم أولادي. فهل رأيتم أباً يودع أولاده الوداع الأخير ثم يملك نفسه أن تسيل من عينيه؟ لقد شغلتم نفسي زماناً، وأخذتم علي مسالكي في الحياة، فلا أرى غيركم ولا أفكر إلا فيكم، وأقنع بصداقتكم هذه الخالصة المتعبة المرهقة، عن الصداقة الكاذبة، والود المدخول
فكيف أقدر أن أملك نفسي وأنا أقوم بينكم لألقي عليكم كلماتي الأخيرة، ثم أمضي لطيتي لا أدري أأراكم بعد اليوم أم لا أراكم بعد أبداً؟. . .