هذه (توبنكين) كعهدي بها تحتضن نهر الراين في فخر وزهو فتتلوى حوله الجنائن والبيوت، وتداعب شطئانه الأبنية والجسور. ولا تزال قائمة في هندسة غريبة تتوالى صاعدة من السفح إلى القمة فتكسب الجبل الذي تقوم عليه جمالا وجلالا. ولو أتيح لك أن تنظر من القمم حولها إلى المدينة لانبسطت أمامك المدينة الحسناء خلال رقعة من الخضرة والماء فتانة خلابة لم تغير الحرب مها إلا في بيوت سقطت فأصبحت أكواما، وحوانيت خلت من البضاعة فغدت خاوية، وواجهات للمخازن أقفرت إلا من إعلان كبير عن الكمية من الزبدة والخبز والخضار التي توزع خلال الشهر. ويدهشك أن ترى الألمان وقوفا في صفوف متلاحقة أمام كل بائع، تنتظر في صبر عجيب نصيبها الضئيل من خبز يناله الألماني ليومه كله وتأتى عليه في غداء واحد؛ وزبدة ينتظرها الألماني لأسبوع بأجمعه، ونصيب مثلها في فطور واحد، ولباس قديم جديد تبعثه عبقرية الفقر والحاجة حيا بعد البلى. ويدهشك كذلك أن ترى نظام المقايضة والمبادلة بين البضائع والحاجيات، وقد عاد إلى ألمانيا في القرن العشرين بعد أن دفنته منذ قرون.
لا تزال توبنكين موطن الجامعة يقبل إليها الطلاب الناشئون مشغوفين حريصين، ويملئون مقاعد المكتبة دءوبين جشعين، يعملون حتى تضج معدهم الصغيرة بالجوع وأجسادهم الهزيلة من الغذاء. ماتت أفراحهم وحفلاتهم التقليدية حول كئوس الجعة؛ وخمدت أغانيهم وأهازيجهم في الشوارع والحفلات، وتفردت النساء والأطفال بالحدائق والحقول لأن الشباب الألماني بين العشرين والثلاثين غائب عن الميدان وهو اليوم في الأسر أو في القبر.
ولا تجد أكثر ما تجد في هذه المدينة إلا شيوخا وعجزة قد استسلموا للكنيسة أكثر أوقاتهم، أو للبيوت يزرعون حدائقها الصغيرة، منها يأكلون وعليها يقتاتون. وما هي إلا سياحة قصيرة حتى يمل المسافر النظر والنزهة، فيستريح إلى صديق ودود يستمع منه الشكوى والحرمان والشجاعة والأسى. ولي في هذا البلد أصدقاء مستشرقون منهم ليتمان وفكتور