بور وفايسفايلر أما الأول فما يزال يبتسم في فلسفة للحياة، في أسلوب شرقي، ويتحدث عن ماضيه في فلسطين ومصر بلهجة عربية، ويعتز بطلابه، وفيهم آنسه تترجم (الأيام) للدكتور طه حسن بك إلى اللغة الألمانية، وطالب يؤلف رسالة عن (الفيح القسي في الفتح القدسي) للعماد الأصفهاني، وآخر يؤلف عن العامة والأزجال، يسترشدون برأيه في بيته أو في معهد العلوم الشرقية. وهذا وهذا غاصان بالكتب العربية الجليلة النادرة. فمن شاء أن يعود إلى الشرق وهو في ألمانيا فليقصد الرجل. وأما فيكتور بور فهو قيم المكتبة العامة، يؤلف عن العرب والبيزنطيين في أناة ودقة وعلم عرف بها أساتيذه وأجداده وأما الثالث فليس في المنطقة، وإنما وقعت الهدنة وكان في (غوتنجن) فأصبح من نصيب المستعمر الجديد. وحظه في هذا كحظ المخطوطات العربية سافرت خلال الحرب من أماكنها إلى مخابئ أمينة. فلما انتهت الحرب أصبحت البلد في دولة مخطوطاتها في دولة. في الجنوب مخطوطات الشمال وفي الغرب مخطوطات الشرق. ففي كل منطقة مخطوطات المنطقة الأخرى، فماذا في هذه المنطقة من مخطوطات؟ لعل أصدقائي من المستشرقين لا يعرفون ذلك بل لعلهم لا يسعون إلى هذه المعرفة في هذه الظروف. . . .
والألماني يجهل ما يجري في بلاده الآن، وقد عادت به النكبة قرونا في ركب الحضارة. فقد انقطعت المواصلات الحسنة أو كادت، وتباطأ البريد حتى لكأنه معدوم، فالبرقية من برلين إلى غيرها تقطع أربعة أيام أو ستة؛ والرسالة تطوى المسافات فتفتحها أيد وتغلقها أيد في رقابة غريبة، فإذا وصلتك فأنت بها سعيد. فليس عجيبا إذا أن يجهل الألمان في منطقتهم من خزائن ثمينة، ذلك لأن الحكومة النازية نقلت أكثر المكتبات إلى مخابئ نائية وأحاطت هذا النقل بالكتمان، وحرمت إذاعة الخبر، ليجهل الخلفاء مواطن التحف، وليجنبوها غاراتهم العنيفة التي اشتدت في الشهور الأخيرة قبل الانكسار.
واختارت أحد مخابئها هذه القرية، بين جبال عالية لا تصلها الطائرات فإذا وصلتها لم تنل منها. وليس في هذه القرية الصغيرة ما يحوى الكنوز ويضم التراث ويكفل المخطوطات إلا حصن واحد جبار هو هذا البناء الكبير بناء الدير. فما من سبيل إذا إلى بلوغ أمنيتي إلا أن أدخل الدير. . .
لبثت يومين كاملين أفكر في الدير وفي السبيل إلى الدير، فقد انقطعت الأسباب بين أكثر