خلدوا (يوم ٢٤ تموز)، فانه كان لنا يوم البؤس، وأنه كان لنا يوم النعيم!
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت تلميذا في الصف الأدنى من الدراسة الثانوية، وكان لي رفاق لهم على حداثة أسنانهم قلوب فيها إيمان وفيها حماسة وفيها وطنية، وكنا نحس وقد ولى حكم الأتراك، وغاب عنا شبح الذعر والهول: جمال باشا. . . واختفت المشانق، وبطل الهمس، والتلفت كلما ذكر هذا الاسم المرعب، وجاء الشريف فيصل، وجاءت معه الأفراح، وقامت الأعراس، ودقت طبول البشائر. . . كنا نحس أننا نعيش في دنيا من الأحلام، في أيام كلها أعياد، وكنا إذ نجول كل خميس في المدينة ننشد (مرسلييز العرب):
أيها المولى العظيم ... فخر كل العرب
ملكك الملك الفخيم ... ملك جدك النبي
فيردده معنا التجار في دكاكينهم، والباعة من وراء دوابهم، والمارة في دروبهم، وتردده منازل دمشق ودورها، ومساجدها وقصورها، وقلعتها وسورها، وتردده الأرض والسماء. . . أو هكذا كان يخيل إلينا، فيشد هذا الخيال من عزائمنا، فننتفخ ونتطاول، ونمد أصواتنا، ونقويها لنشعر أنفسنا أننا صرنا رجالا، وصرنا جندا كالرجال الذين كنا نراهم يصرخون في المظاهرات ويلوحون بالسيوف والبنادق، ويطلقون النار من مسدساتهم كلما أخذت منهم الحماسة وهزهم الطرب، بعد أن مضت علينا أيام ما كنا نرى في دمشق رجلا إلا فارا من الجيش مختبئا يمشي مشية المذعور، يخاف أن يلمحه رسول الموت (أبو لبادة) فيقول له الكلمة التي حفظناها، ونحن صغار لا ندري معناها، ولكنا ندري أنها كانت تخيف وترعب، ويصفر منها الوجه، وترتجف الأضلاع، كلمة:(نرده وثيقة)؟
وأنا لسادرون في أفراحنا، ممعنون في مسيراتنا، مزهوون باستقلالنا، وإذا بنا نسمع الصريخ في الحمى، ونرى الخطباء يقومون في الأسواق ينذرون الناس خطبا داهما، وشرا مقبلا، ولم ندر نحن الفتية الصغار ماذا جرى؛ فسألنا: هل عاد جمال باشا؟ هل رجعت