للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[سلطة الآباء]

للأستاذ أحمد أمين

رحم الله زماناً كان الأب في بيته الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم؛ تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت، فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت؛ تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندي جبينها، ويصبغ الخجل وجهها، وتنكس بصرها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح؛ والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يحدث وما لا يحدث.

في جملة الأمران أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم عليه وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة ولهم الخضوع، يرسم الخطط وهم ينفذون، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم؛ وويل لمن تبرم أو عارض! فأن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئة إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب؛ إنما يحاور ويداور، ويلمح ويرمز؛ فان أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيراً أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.

وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداء لا قضاء، ويسائلهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضئوا؛ يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصلحاء - وان أنس لا أنس جمال المواسم الدينية - كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذا ينظف، وهذه تعد الأكل الحافل ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعداداً لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض، وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يخرج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جمله فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي

<<  <  ج:
ص:  >  >>