وأخيراً عاد (الملاح التائه) إلى مرفأه الأول يتزود من روح خالقه ويزداد. عاد وهو ينشد دعاء سيده الشاعر لحبيبه الهاجر:
فاجعل البحر أماناً حوله ... واملأ السهل سلاماً واليفاعا
وقُد الفُلك إلى بر الرضى ... وانشر الحب على الفُلكِ شراعا
ولله ما لقي الملاح التائه تحت الشراع المضطرب على ثبج البحر الهائج من تصاوير الشر وتهاويل الموت! كان زورقه الفضي الراقص ينساب بين الغواصات والمدمرات والبوارج كما تنساب عروس الماء بين عمالقة التماسيح والتنانين في نهر العَدم. كان نشيده في وسط الزعازع كصوت السلام في وغى الحرب. وكلمة السلام لا تبيد ولا تخفت لأنها من الحق وإلى الأبد. وهي على كل حال وفي كل وقت حجة في فم الطاغية الفاتك يبرر بها الحرب الضروس، كما يحلل الذابح بذكر الله الدم المسفوح!
ليس (الملاح التائه) قصائد أجراها علي طه على بحور الخليل؛ وإنما هو نبضات قلب، وخلجات نفس، ولفتات ذهن، صاغها الفنان الموهوب أناشيد يرددها المجهودون والمعمودون ومن شق عليهم أن يبصروا ومضات المنار على خِضم الحياة
صاغها أناشيد يتسع الخيال فيها اتساع اللانهاية، ويعمق الفكر فيها عمق الأزل، ثم تعيها ألفاظ مونقة متخيرة كزهرات الطاقة المفوَّفة نسقتها يد عاشقة شاعرة
كان ديوان (الملاح التائه) يوم ظهر في طبعته الأولى حادثاً أدبياً استفاض حوله الحديث، واستطال به الشعر، وانتعش على حسابه النقد. ومن النادر أن نال شاعر ما نال علي طه من تقدير أعيان الأدب وتكريم أقطاب الصحافة. ذلك لأن علي طه شاعر بالمعنى الأخص الذي تريده السليقة والصنعة من لفظ الشعر. واليوم يظهر في طبعته الثانية على فترة يسيرة من ظهور شقيقه (ليالي الملاح التائه) فيضخُم ويعظُمُ بالديوانين ديوان الألحان في موسيقى الشعر الحديث.