الفنان إنسان منقب، يغريه الأمل فيسبح في خيالات خلابة، أو يوئسه القدر فيراع، وهو على أية حال يكونها متنقل متفنن. . .
تعاف نفسه الاستقرار، ويؤلمه الجمود، هو إنسان دقيق مرهف الحس، يدرك من وراء الظواهر ما لا يدركه غيره؛ فإذا أصاب الهدف فبشّره بفلاح عظيم، إذ تسمو مداركه ويمرن نشاطه ويخلد فنه؛ وهو كلما طال وقت اختباراته دقّ إدراكه ونفذ إلى ما وراء خيالاته ومشاهداته، وكلما صمت نطقت ريشته، ودوى نغم وتره. . .
امتحان
اختبر مرة فنان صيني ماهر تلاميذه - فكلفهم رسم جبل في بلادهم يسمى (جبل الأسرار)، ومن فوقه وحوله الهياكل للعبادة.
رسم الطلاب الجبل بإتقان، وأظهروا حوله الهياكل، فجاءت رسومهم نماذج باهرة، وراحوا إلى أستاذهم فخورين؛ ولكن كان نصيبهم جميعاً الرسوب في الامتحان، إذ قال لهم أستاذهم: إن رسومكم التي أرى، إن دلت على شيء، فلا تدل على أكثر من أشياء ظاهرية مادية ساذجة، مما يشير إلى أن خيالكم قاحل وفنكم بدائي، ولم تحاولوا تفهم نفوسكم حتى تستطيعوا نحت شيء منها يخلد به تصوركم لجبل الأسرار وما يحيط به.
لقد كان يكفي تلاميذي أن ترسموا هيكل الجبل من بعيد، وقد اختفت أجزاء منه: إما في ضباب، أو زوبعة، أو وراء السحب؛ وقد كان يكفي الرمز إلى وجود هياكل حوله وعلى قمته بأن ترسموا راهباً أو اثنين يجلبان ماءً من مجرى الماء بالوادي، أو من مساقط المياه القريبة ليصعدا به على الجبل. ويكفي ما يشير إليه عملهما من وجود الرحمة والتضحية والتجرد، كما يكفي هذا لفهم دلالة الرسم على ما قصد به.
هكذا الحياة شك ويقين، ووضوح وغموض، ويأس وأمل، وصدق وكذب، وخداع ووفاء، وشدة ورخاء، وحب وكره، وغير ذلك مما لا حصر له من الأضداد.
مسكين الإنسان يضل بين هذه جميعاً، يخدعه البصر حيناً وتخادعه الحواس أحياناً، تثيره الموسيقى وتشمعه الفلسفة، فيصير نوراً في الأنوار أو روحاً في الأرواح. حياته نهب بين