الشدائد والتأملات. الشدائد تصقل نفسه من جهة وتنمي خياله التأملات من جهة أخرى، فيضيف إلى شخصيته شخصيات متعددة كلما مرت به حادثة أو اختلجت قسماته وتأثرت أعصابه. ولكن هل إدراكه محدود؟ هذا ما يحيرني. أما نشاطه فمحدود بتحلل هيكله، ولكن نشاطه الادراكي هل يزول أيضاً وينتهي إلى الأبد كما ينتهي الجسم؟!
صورة
أتخيل الآن تحفة من روائع الخيال والفن الصيني، أهدتها إلي بعثة الإخاء الإسلامية الصينية (نزيلة القاهرة في شهري مارس وإبريل ١٩٣٩)
هذه الصورة بها أعشاب مزهرة، وبها طيور خواضة. وقف ثلاثة منها معاً على العشب المائي، ولفت نظري سماتها المختلفة
فواحدة كأنما تجدّ في إخفاء وجهها، وتحاول إغماض عينها فلا تريد أن يراها أحد أو ترى أحداً؛ وواحدة تكابد يأساً قاتلاً وهماًّ مقيماً؛ والثالثة تطأطأ رأسها وقد وقفت على ساق واحدة في إعياء وخفض جناح
والناظر إلى ثلاثتها لا بد أن يشفق عليها، ويعجب من أمرها. وفي أعلى الصورة طائران يحلقان معاً في ضوء البدر الخلاب وقد قاربا أزهار العشب وهما يهبطان بالتدرج، ويطمئن الناظر إليهما لما تضفيان عليه من سمات الانشراح والاطمئنان والسعادة
في الصورة شيء أخر أحاول تذكره فلا تسعفني الذاكرة، وقد صممت ألا أرى
الإطار حتى أذكر ذلك الشيء، الذي أذكر موضعه في الجهة اليسرى من أعلى الصورة، ولكني لا أذكر إذا كان جبلاً أو إنساناً أو حيواناً أو غير ذلك. . . غريب هذا! إن جميع ألوان الصورة حاضرة في مخيلتي بجميع دقائقها من ظل وألوان وحجم وتناسق وكل شيء إلا ذلك الشيء المنسي في أعلى الصورة من الجهة اليسرى. . . ترى ما هو وما دلالته، ولماذا أهملته باصرتي وذاكرتي، ولا يمكن أن أتصوره فقد انمحى أثره من مخيلتي تماماً؟!
إن زهر العشب السامق بألوانه المشوبة بالحمرة والصفرة، والمتناثرة زهوره ينطوي فيها كل معاني فصل الخريف، الذي يهيج في كل قلب ما يكمن، ويثير في كل نفس مشجاة شجنها
والطير الممثل في الصورة هو نوع من البط غير الأليف الطيار، يتصف بشدة الوفاء، فإذا