أقلعت الآرجو وطفقت تطوي عباباً من بعده عباب، ولجة من ورائها لجة؛ وبدا الطريق كأنه يطول، والأفق كأنه يحلو لك، والسحب كأنما تتجمع من كل صوب لتنعقد فوق الآبقين بكنوز إيتيس وابنته وولي عهده. . .
ونمى الخبر المفزع إلى الملك فجن جنونه، وهب من فوره يعد أساطيله ليقتفي آثار جاسون، عسى أن يقبض عليه، ويعود بابنيه وأعز كنزه. . . وانطلق هو الآخر يطوي العباب، ويتواثب بأسطول فوق أعراف الموج، ووقف بين الملاحين يحضهم ويحرضهم، ويستحثهم ويشجعهم، حتى لاحت الآرجو لهم كالنكتة السوداء في حمرة الشفق، أو المطوّقة الورقاء في صحيفة الأفق، فضاعفوا الجهود وشدوا الأذرع، واستبقوا إليها من كل فج؛ وكانت سفينة الملك في المقدمة كالطائر الدليل يتبعه سائر السرب؛ ونظر الأرجونوت فأبصروا السفينة تنقذف فوق نواصي الموج نحوهم، فراحوا بدورهم يعملون المجاديف ويُهدْهِدُون الشراع للريح؛ وكلما اقتربت السفينة منهم خفقت قلوبهم وشاع فيها الذعر فجمد عليه ببرده. وكانت ميديا تنظر إلى مركب أبيها وترتعد فرائصها من الغَرَق. . . وفكرت في ألف حيلة وألف سحر، ولكن أفكارها ذهبت كلها أباديد، وبطل سحرها كله فهو لا ينفع ولا يفيد. . . واقتربت سفينة أبيها حتى صارت على رمية سهم. . . وأخذ أبوها المسكين يهتف بها وينادي، ويتوسل أن تعيد إليه ابنه. . . ابنه الأوحد. . . أبستروس. . . (ميديا! ابنتي! أنا أبوك! أتوسل إليك! ردي عليّ ولدي واذهبي أنى تشائين! إنه أملي في الحياة! إنه ولي عهدي وحافظ ذريتي! ميديا! أرسليه في زورق واذهبي أنت. . .!) ولكن الفتاة غَلّقتْ فؤادها وسدّت بالجحود سمعها! وا أسفاه! يا للقاسية! يا لبرودة القلب الذي لا يحس، والنفس التي لا ترحم؟ لقد أمرت ميديا بالفتى فأحضر إليها، ثم شحذت سِكّيناً وأغمدته في