قال شوقي:(وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت). . . فقال تشرشل: صدق وإنجلترا هي المثل! وكأنه حين قال: (فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا). . . قال بيتان: صدق وفرنسا هي المثل!
ولكن الذي يضع القاعدة بالقول لا يستوي هو ومن يطبقها بالفعل؛ وشتان بين من يطبقها على وجه السلب بين من يطبقها على وجه الإيجاب!
إن تحريك اللسان في الفم أسهل على المرء من تقليب اليد في العمل. وإن رجل التجربة والخبرة، أصلح للحياة من رجل النظر والفكرة. وإن تنشئة الفرد على حب الفضيلة أدخل في إمكان المربي من بناء الأمة على أساس الخلق. . . ذلك لأن تهذيب النفس عمل البيئة والقدوة والعادة، وتهذيب الجنس أثر الانتخاب الطبيعي والدهر الطويل. ومن الكثير الغالب أن تجد واحداً تصلح فيه كل عريزة، ولكن من القليل النادر أن تجد فيه كل واحد. ولعلك لا تجد في عمر الإنسانية شعباً سلم جمعه بسلامة آحاده غير الشعب العربي في الماضي والشعب الإنجليزي في الحاضر. ومرجع ذلك فيما نظن إلى انعزال العرب في الصحراء، وانعزال الإنجليز في البحر، والعزلة في مثل هذه الحال تنفي خبث الاختلاط عن مزايا العنصر الأصيلة فتنضج وتخلص كما ينضج الدر اليتم في قاع البحر، ويخلص الحجر الكريم في جوف الأرض. فلما خرج العرب للفتح، ثم خرج الإنجليز للاستعمار، ضيع بنو الصحراء خصيصتهم لأنهم انماعوا في الشعوب الأخرى بالمصاهرة، وحفظ بنو الماء مزيتهم لأنهم انقبضوا عن الناس وترفعوا عن الأجناس فظلوا في عزلة
كان الناس يقولون أن إنجلترا أدركتها أعراض الهرم من دوام النعيم وطول السلامة، ويعجبون مع ذلك أن تملك سدس العالم وتستمكن فيه، والإنكليز في كل أرض قله، ووسائلهم في تملق القلوب ومداهنة النفوس قاصره، والتمويه والخداع والاستغفال والمصادفة والحظ عوامل قد تساعد على الغلب، ولكن فعلها لا يجوز على كل الناس ولا يدوم على طول الزمن. فلم يبق إلا أن يكون في هذا الشعب العجيب سر من أسرار الطبيعة تنبجس عنه حياته الدفاقه الخلاقة كما تنبجس الحيوات الدنيوية بمظاهرها وآثارها عن الروح المجهول
فلما أخذت العالم هذه الرجفة النازية ووقعت إنجلترا بقوتها وسطوتها وثروتها ووجودها في سمير المحنه، استعلن في حلك الخطوب ذلك السر فإذا هو الخلق، ولا شيء غير الخلق.