صاح المنادي في موسم الحج:(لا يفتى الناس إلا عطاء ابن أبي رباح) وكذلك كان يفعل خلفاء بني أمية، يأمرون صائحهم في الموسم، أن يدل الناس على مفتي مكة وإمامها وعالمها، ليثقلوه بمسائلهم في الدين، ثم ليمسك غيره على الفتوى، إذ هو الحجة القاطعة لا ينبغي أن يكون معها غيرها مما يختلف عليها أو يعارضها، وليس للحجج إلا أن تظاهرها وتترادف على معناها.
وجلس عطاء يتحين الصلاة في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال يا أبا محمد، أنت أفتيت كما قال الشاعر:
سَلِ الُمفْتِيَ الَمكِّيَّ: هل في تَزَاوُرٍ ... وَضَمَّةِ مُشتاقِ الفؤادِ جُناحُ؟
فقال: مَعَاذَ اللهِ أن يُذْهِبَ التُّقَى ... تَلاصُقُ أكبادٍ بهنَّ جِراحُ!
فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلت شيئاً من هذا، ولكن الشاعر هو نحلني هذا الرأي الذي نفثه الشيطان على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القالة في الناس، فإذا كان غد وجلست في حلقتي فأغد علي، فأني قائل شيئا.
وذهب الخبر يؤج كما تؤج النار، وتعالم الناس أن عطاء سيتكلم في الحب، وعجبوا كيف يدري الحب أو يحسن أن يقول فيه من غير عشرين سنة فراشه المسجد، وسمع من عائشة أم المؤمنين، وأبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبن عباس بحر العلم! وقال جماعة منهم: هذا رجل صامت أكثر وقته، وما تكلم إلا خيل إلى الناس أنه يؤيد بمثل الوحي، فكأنما هو نجى ملائكة يسمع ويقول، فلعل السماء موحية إلى الأرض بلسانه وحيا في هذه الضلالة التي عمت الناس وفتنتهم بالنساء والغناء.
ولما كان غد جاء الناس إرسالاً إلى المسجد، حتى أجتمع منهم الجمع الكثير: قال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار: وكنت رجلا شابا من فتيان المدينة، وفي نفسي من الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوت مع الناس، وجئت وقد تكلم أبو محمد وأفاض، ولم أكن رأيته من قبل، فنظرت إليه فإذا في مجلسه كأنه هو غراب أسود، إذ كان أبن أمة سوداء تسمى (بركة) ورأيته أسود أعور أفطس أشل أعرج مفلفل الشعر، لا يتأمل المرء منه طائلا،