يقسو الموت على الإنسان فيخطفه من بين أهله وذويه، ويحمله إلى حفرة دامسة حالكة، لا يسطع فيها نجم ولا يهب بها نسيم، ووراءه أكباد تتقطع حسرة على فراقه، ودموع تتساقط حزنا على غربته، وأجسام ترتدي السواد، فتثير كامن اللوعة ودفين الوجد.
وقد يحاول كثير من المرزوئين في أحبائهم وأعزائهم التجلد التماسك فيظهرون الرضا والاستسلام بضع ساعات، ثم تهب عليهم الذكريات الموجعة فتطير الأمن وتمزق الصبر، ويصبح الصابر القانع، كالهالع الجازع، فريسة في أيدي الحزن يمزق أحشاءه، ويريق دموعه، حتى يمن الله عليه بالسلو مرة ثانية فيتماسك ويتجلد، إلى حين محدود. . .!
وكنت أسائل نفسي حين أقف موقف الملتاع بين الكارثة والكارثة، أأنا محق في هذه اللوعة التي أكابد غصصها، وأعاني برحها، أم أن الداء يخونني في موقفي فأظل كاسف البال شارد اللب. ومهما تذرعت بالمنطق والحكمة، فلن أجد الجواب الحاسم لهذا السؤل المعجز. ومن لي به، والموت في حقيقة أمره باب موصد محكم تعلوه أقفال غلاظ شداد فلا يمكن لإنسان أن يعرف ما وراءه مهما أجهد الفكر وواصل التنقيب.
ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان من جرائه، فلو أدرك المرء أمره، وما يعقبه من خطوات مستترة خافية، لا تنتهي إلى نتيجة معينة، ووقف عند حد لا يقبل التجاوز ووطد العزم على قبوله راضيا أو كارها، وهنا تتبدد الحيرة وينتهي التساؤل، ولكن ذلك لن يكون، فالباب موصد، تعلوه الأقفال، ولن يزال ما وراءه خافيا عن الإفهام. . . وهذه الحيرة التي تكتنف كل مفكر في مصيره، متأمل في عقباه، لن يخلو منها إنسان رزق نصيبا من المعرفة. سوء أكان مؤمنا عميق اليقين بما لديه من نصوص أم شاكا يتقلب على جمر الريب والظن. فالإيمان بالله واليوم الآخر لا يحل المشكلة بحال، لأن الذي يعتقد البعث والنشور، يتساءل عما قبل البعث من خطوات فلا يظفر بجواب. وقد يجد أقوالا متفرقة هنا وهناك فلا يلمس فيها النجاة والراحة، بل ربما ضاعفت شكوكه، وأثارت كوامنه. ولقد كان مالك بن دينار رضي الله عنه راسخ اليقين قوي الإيمان، ومات له أخ